قال أصحابنا: لا يكره صوم الدهر إذا أفطر في أيام النهي ولم يترك فيه حقًا ولم يخف ضررًا ولفظ الشافعي في "مختصر البويطي "لا بأس بسرد الصيام إذا أفطر الأيام التي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامها وبه قال عامة الفقهاء، وهذا لما روت أم كلثوم مولاة أسماء رضي الله عنها قالت: قيل لعائشة رضي الله عنها: تصومين الدهر وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام الدهر؟ قالت: نعم وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم [٣٤٧ أ/ ٤] ينهى عن صيام الدهر ولكن من أفطر يوم النحر ويوم الفطر فلم يصم الدهر وحكي عن أبي يوسف أنه قال: إنما نهى رسول الله صلى الله علي وسلم عن صوم الدهر لأنه يضعف عن العبادات وهو يشبه النفل الذي نهى عنه ولو أراد بالنهي صوم هذه الأيام كلا ما كان لتخصيص الأيام الستة بالنهي معنى ولما خص الأيام الستة دل على أن صوم الباقي جائز وهكذا إذا خاف ضررًا وضعفًا في أداء العبادات لا يستحب ما ذكرنا من صيام الأيام المستحبة لما روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين سليمان وبين أبي الدرداء فجاء سليمان يزور أبا الدرداء فرأى أم سلمة متبذلة فقال ما شأنك فقالت: إن أخاك ليست له حاجة في شيء من الدنيا فقال: سليمان يا أبا الدرداء إن لربك عليك حقًا ولأهلك عليك حقًا وعبيدك عليك حقًا فصم وافطر وقم ونم وآت أهلك وأعط كل ذي حق حقه فذكر أبو الدرداء لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال سليمان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "مثل ما قال سليمان.
والدليل على ما ذكرنا أن أبا طلحة الأنصاري كان لا يفطر في حضر ولا في سفر فلم يعبه رسول الله [٣٤٧ ب/ ٤] صلى الله عليه وسلم ولا نهاه عن ذلك، ومن العلماء من قال: يكره ذلك لما روى أبو قتادة رضي الله عنه أن رجلًا قال: يا رسول الله كيف تصوم؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله فلما رأى ذلك عمر رضي الله عنه قال: رضينا بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا نعوذ بالله من غضب الله ومن غضب رسوله، فلم يزل عمر يرددها حتى سكن غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال عمر: يا رسول الله كيف من يصوم الدهر كله؟ قال:"لا صام ولا أفطر "قال: يا رسول الله كيف بمن يصوم يومين ويفطر يومًا؟ قال:"أو يطيق ذلك أحد "قال: كيف يا رسول الله كيف بمن يصوم يومًا ويفطر يومًا؟ قال:"ذلك صوم داود "قال: يا رسول الله كيف بمن يصوم يومًا ويفطر يومين؟ قال:"وددت لو أني أطقت ذلك "، قال: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة من كل شهر ورمضان إلى رمضان فهذا صيام الدهر كله (١) "قلنا: يشتبه أن يكون غضب النبي صلى الله عليه وسلم من كراهة أن يقتدي به السائل في صومه فيتكلفه ثم يعجز عنه أو يمله بقلبه فيكون صيامًا من غير إخلاص، وقوله:"لا صام ولا أفطر "معناه لم يصم ولم يفطر [٣٤٨ أ/ ٤] ومعناه الدعاء عليه كراهة لصنيعه وزجرًا له عن ذلك إذا لم يفطر في شيء من الأيام، وإن نهى عن صيامها أو إذا لم يقوِ على ذلك على ما ذكرنا.
(١) أخرجه مسلم (١٩٦/ ١١٦٢)، وأبو داود (٢٤٢٥، ٢٤٢٦)، والنسائي (٤/ ٢٠٦، ٢٠٧)، والترمذي (٧٦٧)، وأحمد (٤/ ٢٥)، والدرامي (٢/ ١٨)، وابن حيان (٩٣٧)، والحاكم (١/ ٤٣٥).