قال في الحاوي: حقيق بمن علم أن الدنيا منقرضة، وأن الرزايا قبل الغايات معترضة، وأن المال متروك لوارث، أو مصاب بحادث، أن يكون زهده فيه أقوى من رغبته، وتركه له أكثر من طلبته، فإن النجاة منها فوز والاسترسال فيها عجز، أعاننا الله على العمل بما نقول، ووقفنا الحسن القبول إن شاء الله.
ولما علم الله عز وجل أن صلاح عباده فيما اقتنوه مع ما جبلوا علي من الضن به والأسف عليه أن يكون مصرفه بعدهم معروفًا، وقسمه مقدرًا مفروضًا؛ ليقطع بينهم التنازع والاختلاف، ويدوم لهم التواصل والائتلاف. جعله لمن تقاست أنسابهم وتواصلت أسبابهم لفضل الحنو عليهم، وشدة الميل إليهم، حتى يقل عليه الأسف، وليستقل به الخلف، فسبحان من قدر وهدى، ودبر فأحكم، وقد كانت كل أمة تجري من ذلك على عادتها، وكانت العرب في جاهليتها يتوارثون بالحلف والتناصر كما يتوارثون بالأنساب؛ طلبًا للتواصل به، فإذا تحالف الرجلان منهم قال كل واحد منهما لصاحبه في عقد حلفه هدمي هدمك، ودمي دمك، وسلمي سلمك، وحربي حربك، وتنصرني وأنصرك. فإذا مات أحدهما ورثه الآخر، فأدرك الإسلام طائفة منهم فروى جبير بن مطعم قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا حلفًا في الإسلام وإنما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة "فجعل الحلف في صدر الإسلام بمنزلة الأخ للأم فأعطى السدس، ونزل فيه ما حكاه أكثر أهل التفسير في قوله تعالى:{والَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ}[النساء: ٣٣] ثم نسخ ذلك بقوله عز وجل: {وأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}[الأحزاب: ٦]، {إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[الأنفال: ٧٥].
فصل: وكانوا في الجاهلية لا يورثون النساء والأطفال ولا يعطون المال إلا لمن حما وغزا فروى ابن جريج عن عكرمة أن أم كجة وبنت كجة وثعلبة وأوس بن سويد وهم من الأنصار، وكان أحدهما زوجها والآخر عم ولدها، فمات زوجها فقالت أم كجة: يا رسول الله توفي زوجي وبينه فلم نورث فقال عم ولدها يا رسول الله إن ولدها لا يركب فرسا ولا يحمل كلا ولا ينكأ عدوًا يكسب عليها ولا تكتسب فأنزل الله تعالى: {لِلرِجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ والأَقْرَبُونَ ولِلنسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ والأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا}[النساء: ٧].