للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من الهجرة، وتخلف النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد منصرفه من تبوك لا محارباً ولا مشغولاً بشيء، وتخلف أكثر المسلمين قادرين على الحج وأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم تخلفن أيضاً عن الحج مع الإمكان، فلو كان ترك الحج كترك الصلاة حتى يخرج وقتها ما ترك النبي صلى الله عليه وسلم [٢٧/أ] الفرض ولا ترك المتخلفون عنه من أصحابه وأزواجه.

ولم يحج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فرض الحج إلا حجة الإسلام، وهي حجة الوداع سنة عشرة، وهي أخر عمرة ودع فيها الناس وعاش بعد ثمانين يوماً، ثم قبض إلى رحمة الله تعالى، ثم أوضح هذا بما روي عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بالمدينة تسع سنين لم يحج ثم حج، وقصد الشافعي بهذا إسقاط سؤالين لأبي حنيفة.

أحدهما، يقول: الحجة التي حجها في آخر عمره عساها كانت تطوعاً، وكان قد حج حجة الإسلام بعد الفتح قبل حجة المدينة إذا كانت له أسفار كثيرة إلى مكة.

والثاني يقول: حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حججاً كثيرة أجزأته واحدة منها عن حجة الإسلام، قال جابر رضي الله عنه: حج رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث حجج، حجتين قبل أن يهاجر، وحجة بعدما هاجر معها عمرة، فأشار، الشافعي إلى إسقاط الثاني، بقوله: إلا حجة الإسلام، وهي حجة الوداع، فأخبر أن الحجة إلى سميت حجة التي سميت حجة الوداع لتوديعه فيها الناس هي حجة الإسلام لأنها أول حجة فعلها بعد نزول الفرض، فأما ما فعل بمكة قبل الهجرة، وقبل نزول الفرض فلا يتصور أن ينصرف إلى حجة الإسلام كما يصلي صلاة تطوع قبل دخول وقت المكتوبة، فلا ينوب تطوعه مناب المكتوبة.

وقد قال قتادة: قلتُ لأنس: كم حج النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: حجة واحدة، واعتمر أربع عمر: [٢٧/ ب] عمرة في ذي القعدة، وعمرة الحديبية، وعمرة مع حجته وعمرة الجعرانة، إذا قسم غنائم حنين، فإذا تقرر هذا، اختلف أصحابنا في أول وقت العصيان إذا مات بعد الإمكان، فقال أبو إسحاق: يكون عاصياً من السنة الأخيرة لأنا نجيز له في كل سنة أن يؤخره بشرط أن لا يفوته فعله، فإذا أخره عن السنة الأخيرة لأنا نجيز له في كل سنة أن يؤخره بشرط أن لا يفوته فعله، فإذا أخره عن السنة الأخيرة، ومات فقد علمنا أنه لم يكن جاز له تأخيره. ومن أصحابنا من قال: كان عاصياً من السنة الأولى لأنا إنما أجزنا له التأخير من أول حال الإمكان بشرط أن لا يفوته، فإذا فاته صار عاصياً بتأخيره من أول حال الإمكان. وقيل: فائدة الوجهين أنه لو شهد عند القاضي، وحكم بشهادته، ثم مات، ولم يحج، فإن قلنا: نحكم بالعصيان من آخر السنة فهذا فسق ظهر بعد الحكم فلا يؤثر فيه، وإن قلنا: نحكم به من أول السنة يصير كما لو بان فيقهم عند الحاكم، ومن أصحابنا من قال: بقول: يعصي بتأخيره إلى الموت في الجملة من غير تعيين وقت، فيقول لمن لزمه الحج وقدر لك أن يؤخره بشرط السلامة، وهو أن يفعله من بعد، فإن لم نفعل عصيت، وهذا كما تقول للزوج أن يضرب زوجته بشرط السلامة، فإذا أدى إلى التلف تبيناً أنه لم يكن مأذوناً، ومن أصحابنا من قال: لا يصير عاصياً، ولكن يقول: إنه كان مفرطاً كما تقول للزوج أن يضرب زوجته بشرط السلامة، فإذا أدى إلى التلف تبينا أنه لم يكن مأذوناً، ومن أصحابنا من قال: لا يصير عاصياً، ولكن يقول: أنه كان مفرطاً كما ينسب تارك الصلاة عن أول وقتها حتى يعجز إلى التفريط دون العصيان، وهذا اختيار صاحب "الإفصاح" لأنا جوزنا له

<<  <  ج: ص:  >  >>