قال في الحاوي: اعلم أن مقصود الشافعي بهذه الجملة أمران:
أحدهما: إثبات أصله في التحليل والتحريم، أنه معتبر باستطابة العرب واستخباثهم، وقد قدمناه واستوفيناه.
والتاني: الرد على مخالفة فيه، وهو مالك، فإنه قال: كل الحيوان حلال إلا ما ورد نص بتحريمه، فأباح حشرات الأرض من الجعلان والديدان وهوامها من الحيات والعقارب وسباع الدواب، وبغاث الطير وجوارحها، وحلل لحوم الكلاب، وحرم لحوم الخيل، وجعل أصله إحلال جميعها إلا ما ورد فيه نص استدلالاً بقول الله تعالى:{قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ}[الأنعام: ١٤٥] وبقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}[المائدة: ٢] فعم ولم يخص قال: ولئن كان المعتبر باستطابة العرب فهم يستطيبون أكل جميعها سئل بعض العرب عما يأكلون وما يذرون؟ فقال: نأكل كل ما دب ودرج إلا أم حبين فقيل له: لتهنأ آم حبين العافية.
ودليلنا مع تقرير الأصل الذي حررنا قول الله تعالى:{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ}[الأعراف: ١٥٧]. فدل على أن فيها خبيثاً محرما وطيباً حلالاً، ومالك جعل جميعها حلالا طيبا.
وروى عاصم بن ضمرة عن علي - عليه السلام - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنه نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير" فجعل هذا في التحريم أصلاً معتبراً، ومالك لا يعتبره، ويجعل الكل حلالاً.
وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:"خمس يقتلن في الحل والحرم: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور" وما أبيح قتله ولم يحرم في الحرم والإحرام كان حراما مستتنى من قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}[المائدة: ٢] وهو انفصال عنها، ولأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أحل بعض الحيوان وحرم بعضه، وأغفل بعضه، فكان نصه متبعا في ما أحل وحرم، وبقي المغفل، ولا به له من أصل يعتبر فيه، لأنه ليس له رده إلى التحليل بأولى من رده إلى التحريم، وليس فيه إلا أحد أصلين، إما القياس وإما عرف العرب، ومالك لا يعمل على واحد منهما، ونحن نعمل عليهما، لأننا نعتبر عرف العرب ثم يرجع إلى القياس عند التكافؤ فكنا في اعتبار الأصلين أرجح منه في ترك الأصلين.
فأما الجواب عن قوله تعالى:{قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ}[الأنعام: ١٤٥] في وجهين:
أحدهما: لا أجد فيما نزل به القرآن محرماً إلا هذه المذكورة، وما عداها محرم بالسنة.