قيل: هذا غلط، كيف يصح أن يكره ما صرح الله بإحلاله في كتابه؟ وإنما المراد بذلك أن لا يصرف أكثر زمانه إلى الاكتساب، ويشتغل به عن العبادة حتى يصير إليه منقطعاً، وبه متشاغلاً، كما روي عن الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن السوم قبل طلوع الشمس" يريد أن لا يجعله أكبر همه، حتى يبتدئ به في صدر يومه، لا أنه حرام.
فإن قيل: فقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:"يا تجار كلكم فجار إلا من أخذ الحق وأعطى الحق" فجعل الفجور فيهم عموماً، ومعاطاة الحق خصوصاً، وليست هذه صفات أجل المكاسب.
قيل: إنما قال ذلك، لأن من البيوع ما يحل، ومنها ما يحرم، ومنها ما يستحب ومنها ما يكره، كما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:"لو اتجر أهل الجنة في الجنة ما اتجروا إلا في البر، ولو اتجر أهل النار ما اتجروا إلا في الصرف" قال ذلك استحباباً لتجارة البر، وكراهة لتجارة الصرف.
وقد روى عبد اثه بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من كان يبيع الطعام وليس له تجارة غيره، حاط، أو باع، أو طاغ، أو زاغ " يريد بذلك كراهة التفرد بالتجارة في هذا الجنس.
وليس كلامنا فيما كره منها، وإنما الكلام فيما استحب منها، وهو ما استثناه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها.
فصل:
فإذا ثبت ما ذكرنا في حقيقة البيع وانتقال الملك به. فقد ذكر الشافعي في كتاب "الأم" ما يلزم به البيع وما يجوز أن يفسخ به البيع. فقال: وجماع ما يجوز من كلّ بيع آجل وعاجل، وما لزمه اسم بيع بوجه، لا يلزم البائع والمشتري حتى يجتمعا أن يتبايعاه برضا منهما بالتبايع به ولا يعقداه بأمر منهي عنه، ولا على أمر منهي عنه، وأن يتفرقا بعد تبايعهما عن مقامهما الذي تبايعا فيه على التراضي بالبيع، فإذا اجتمع هذا لزم كلّ واحد منهما البيع فلم يكن له رده إلا بخيار، أو في عيب يجده، أو شرط يشترطه، أو خيار الرؤية. إن جاز خيار الرؤية. ومتى لم يكن هذا لم يقع البيع بين المتبايعين. وحكى المزني عن الشافعي في جامعه الكبير: مثله سواء فأراد الشافعي بهذه الجملة أن يبين شروط العقد، وشروط الرد.