للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر مناديه أن ينادي ثلاثاً: "لا يفترقن بيعان إلا عن تراض".

والخامس: حديث عمرو بن شعيب: وقد تقام ذكره في دليل المخالف.

فدلت هذه الأخبار كلها بصريح القول ودليله على ثبوت خيار المجلس للمتعاقدين معاً ما لم يتفرقا بالأبدان، أو يجعل أحدهما لصاحبه الخيار، فيختار. فإن قيل: فإنما جعل لهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخيار ما لم يتفرقا بالكلام: فيكون المراد بالافتراق افتراق الكلام دون افتراق الأبدان: وهو أن يكون للمشتري الخيار بعد بذل البائع في أن يقبل أو لا يقبل، وللبائع الخيار قبل قبول المشتري في أن يرجع في البذل أو لا يرجع، فإذا قل المشتري ولم يكن قد رجع البائع، فقد تم البيع، وانقطع الخيار سواء افترقا بالأبدان أو لم يفترقا.

قالوا: وهذا أولى من حمله على افتراق الأبدان من وجهين:

أحدهما: أنه معهود الافتراق في الشرع قال الله تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ} [النساء:١٣٠] يعني: بالطلاق والطلاق كلام. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة" يعني: في المذاهب.

والثاني: أن حمله على التفرق بالكلام حقيقة، وعلى التفرق بالأبدان مجاز، لأنه جعل الخيار للمتبايعين، وهما يسميان في حال العقد متبايعين حقيقة، وبعد العقد مجازاً، كما يقال: ضارب، فيسمى بذلك في حال الضرب حقيقة، وبعد الضرب مجازاً، وإذا كان كذلك كان حمله على الحقيقة أولى من حمله على المجاز، فثبت بهذين الوجهين أن المراد به التفرق بالكلام دون التفرق بالأبدان. فالجواب عنه: دليل، وانفصال. فأما الدليل على أن المراد به التفرق بالأبدان دون الكلام فمن ثلاثة أوجه:

أحدها: أن التفرق لا يكون إلا عن اجتماع، فإذا تفرقا بالأبدان بعد البيع، كان تفرقاً عن اجتماع في القول حين العقد وعن اجتماع بالأبدان. ولا يصح تفرقهما بالكلام، لأنهما حال التساوم متفرقان، لأن البائع يقول: لا أبيع إلا بكذا، والمشتري يقول: لا أشتري إلا بكذا. فإذا تبايعا فقد اجتمعا في القول بعد أن كانا مفترقين فيه. وهذه دلالة أبي إسحاق المروزي.

والثاني: أن خيار المشتري بعد بذل البائع وقبل قبوله معلوم بالإجماع، إذ لو سقط خياره ببذل البائع لوجبت البياعات جبراً بغير اختيار بعد اختيار ولأفضى الأمر فيها إلى ضرر وفساد، والخيار بعد البيع غير مستفاد إلا بالخبر، فكان حمل الخبر على ما لم يستفد إلا منه أولى من حمله على ما استفيد بالإجماع، لأن لا يعرى الخبر من فائدة. وهذه دلالة ابن جرير الطبري.

والثالث: أن اللفظ إذا ورد، وكان يحتمل معنيين، وكان المراد أحدهما بالإجماع لا هما معاً، ولم يكن في اللفظ تمييز المراد منهما، كأن ما صار إليه الراوي هو المراد

<<  <  ج: ص:  >  >>