الأول: هو ماء نهر عظيم مثل دجلة والفرات وغيرهما والناس في السقي منه شرع سواء، ولا يحتاج فيه إلى ترتيب وتقديم وتأخير لكثرته واتساعه.
والثاني: ماء مباح في نهر صغير يأخذ من النهر الكبير ولا يسع جميع الأراضي إذا سقيت في وقت واحد ويقع في التقديم والتأخير نزاع فهذا يقدم فيه الأقرب فالأقرب إلى أول النهر الصغير والأصل فيه ما روي أن رجلًا خاصم الزبير في سراح الحرة التي يسقون بها فقال الأنصاري: سرح الماء يمر عليه فأبى عليه الزبير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك» فغضب الأنصاري، وقال: يا رسول الله إن كان ابن عمتك فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يبلغ إلى الجدر" قال الزبير: فو الله إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك: {فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}[النِّساء: ٦٥] الآية فدل هذا على أن الأقرب أولى فإذا استكفى أرسله إلى جاره إلى من يليه، وروي أيضًا أن رجلًا من قريس كان له سهم في بني قريظة فخاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرور السبل الذي يقتسمون ماءه فقضى بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الماء إلى الكعبين ثم يحبسه الأعلى عن الأسفل لكي يرسله إليه وأيضًا فإن الأقرب إلى فرهة النهر بمنزلة السابق إلى المشرعة فوجب أن يكون أولى من الذي هو أبعد منه.
وأما تأويل قصة البئر فهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أولًا بأن لا يستوفي جميع حقه، ويرسل الماء إلى جاره فلما أساء جاره الأدب أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يستوفي في حقه فقال:«أحبس الماء حتى يبلغ الجدر»، فإن قيل: ففي الحديث الآخر أنه علق الحق بأن يبلغ الماء إلى الكعبين، وهذا مخالف لذلك.
قلنا: ليس فيهما خلاف، لأن الماء بلغ الكعبين وكانت الأرض مستوية رجع الماء إلى الجدار.
إذا تقرر هذا فإن الأقرب إلى الفرهة يسقى ويحبس الماء عمن دونه فإذا بلغ الماء الكعبين أرسله إلى جاره وهكذا الأقرب فالأقرب يفعل كلما حبس الماء وبلغ في أرضه إلى الكعبين أرسله إلى من يليه حتى يشرب الأراضي كلها فإن كان زرع الأسفل يهلك إلى أن ينتهي الماء إليه لم يجب على من وفقه إرساله إليه فإذا أحيا على هذا النهر الصغير رجل أرضًا مواتًا هي أقرب إلى فرهة النهر من أراضيهم، فإنهم أحق بمائه فإذا فضل عنهم شيء سقي المحيي منه ولا يقول إن هذا الماء ملك لهم كما إذا جازوه ملكوه، وإنما هو من مرافق ملكهم فكانوا أحق به مع حاجتهم إليه فما فضل منهم كان لمن أحيا على ذلك