قتال أهل الجمل وصفين، وهم من أهل القبلة، وقالوا: هلا فعل مثل ما فعله عثمان أغلق بابه وكف أصحابه عن القتال، وكالذي فعل ابنه الحسن حين رأى الثائرة قد هاجت والدماء قد طاحت، سلم الأمر تسليم تقرب إلى معاوية.
فرد الشافعي عليهم: بأنه ما ابتدع ذلك، ولا ارتكب فيه محظورًا، فقد فعل أبو بكر رضي الله عنه في قتال أهل القبلة من المسلمين مثل ما فعله، وإن اختلف السببان فيه، فإن أهل الردة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ضربان:
منهم من ارتد عن دينه وكفر بعد إسلامه مثل مسيلمة تنبأ باليمامة فارتد معه من أطاعه من بني حنيفة، ومثل طليحة تنبأ باليمن فارتد من أطاعه من أهلها.
ومثل العنسي تنبأ في قومه فارتد معه من أطاعه منهم فجهز الجيوش إليهم، وكان أول جيش سيره إليهم جيش أسامة، وكان مبرزًا يظاهر المدينة حين قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فسيرهم أبو بكر رضي الله عنه إلى ابني من أرض الشام، فعاد ظافرًا، ثم سير إلى مسيلمة جيشًا وأمدهم بالجيوش حتى قتل من أهل الردة من قتل، وأسلم منهم من أسلم.
فهذا ضرب منهم انطلق عليهم اسم الردة لغة وشرعًا. والضرب الثاني منهم من كان مقيمًا على إسلامه ومنه من الزكاة بتأويل ذهب إليه، وشبهة دخلت عليه في قول الله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ}[التوبة:١٠٣]. وكان دخول الشبهة عليهم فيها من وجهين:
أحدهما: أنه خاطب به رسوله: فلم يتوجه بالخطاب إلى غيره.
والثاني: قوله إن صلاتك سكن لهم وليست صلوات ابن أبي قحافة سكن لنا فاشتبه تأويلهم على قوم من الصحابة وصح فساده لأبي بكر فأذعن على قتالهم فأشار عليه جماعة بالكف عنهم منهم عثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف.
فقال أبو بكر رضي الله عنه: لأن أخر من السماء فتتخطفني الطير أو تهوي بي الريح في مكان سحيق أهون عليّ مما سمعت منكم يا أصحاب محمد، والله لا فرقت بين ما جمع الله يعني قوله تعالى:{وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}[البقرة:٤٣]. والله لو منعوني عناقًا أو عقالًا كانوا مما أعطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه، أرأيتم لو سألوا ترك الصلاة، أرأيتم لو سألوا ترك الصيام، أرأيتم لو سألوا ترك الحج، أرأيتم لو سألوا شرب الخمر، أرأيتم لو سألوا الزنا، فإذا لا تبقى عروة من عرى الإسلام إلا انحلت.
فقال له عمر رضي الله عنه: علام نقاتلهم وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله". فركز أبو بكر في صدر عمر وقال: إليك عني شديدًا في الجاهلية خوارًا في الإسلام، وهل هذا إلا من حقها؟