إذا تقرر هذا، فإن لم يكن قام من النوم وتيقن طهارة اليدين فله أن يغسلهما في الإناء، وإن قام من النوم أو كان شاكًا في طهارته فالمستحب أن يفرغ من الإناء على يديه، ولا يدخلهما في الإناء خوفًا من النجاسة، وإن لم يكن مستنجيًا بالأحجار، فلا يخلو البدن من نثره، فربما يحكها ويسيل منها شيء ينجس يده، فإن غمسها في الإناء لا ينجس الماء؛ لأن الأصل الطهارة. وإن تيقن نجاسة اليد فغمسها في الإناء، فإن كان أقل من قلتين تنجس، وإن كان قلتين لا ينجس ما لم يتغير. وقال في "الحاوي": هكذا ذكره الشيخ أبو حامد، والصحيح من المذهب وبه قال جماعة أصحابنا: أن القائم من النوم وغيره سواء في هذا، فلا يغمسان إلا بعد غسلهما، لأنهما لما استويا في سنة الغسل، وإن ورد النص في القائم من النوم استويا في تقديم الغسل على الغمس، وهذا لأن حكم السنة يثبت مع زوال السبب كما يثبت سنة الرمل في الطواف مع زوال السبب وهو مراءاة المشركين، وهذا غريب ثم إن كان يتوضأ من إناء فإن كان نقلته على يده تركه على يساره وقلبه عن يمينه، وإن كان يعرف منه وغرف الماء بيمينه لأنه أمكن. واعلم بأن أبا هريرة - رضي الله عنه - لما روى هذا الخبر قال له أعرابي من أشجع من أصحاب عبد الله بن مسعود - رضي الله عنهم - إذا جئنا مهراسكم كيف نصنع؟ فقال: أعوذ [٥٤ أ/ ١] بالله من شرَّك. والمهراس حجر كانوا يتوضؤون منه بالمدينة لا يمكن أن يقع على اليد إلا بإدخال اليد، وكانت الصحابة يتوضؤون منه. قال أصحابنا في مثل هذا الموضع: يرفع الماء بفيه ويغسل يديه، أو يأخذ الماء بطرف ثوبه النظيف ويغسل يديه بما ينال منه أو يستعين بغيره.
مسألة: قال: "ثُمَّ يُدْخِلُ يَدَهُ اليُمْنَى في الإِنَاءِ فَيَغْرِفُ غَرْفَةً لِفِيهِ وَأَنْفِهِ".
وهذا كما قال: استجب الشافعي إدخال يده اليمنى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب التيمن في كل شيء، ثم قال: فَيَغْرٍفُ غَرْفَةً" وهي بفتح الغين مصدر غرف يغرف، وبضم الغين اسم للماء الذي يكون في كفه.
والكلام الآن في فصلين أحدهما: في حكمهما. فأما حكمهما يفيد أن المضمضة والاستنشاق في الوضوء وغسل الجنابة. وبقه قال مالك، وربيعة، والزهري، والأوزاعي. وقال عطاء، وابن أبي ليلى، وإسحاق، وأحمد في رواية: هما واجبتان. وقال أبو ثور، وداود، وأحمد في رواية: الاستنشاق فيهما دون المضمضة. وقال أبو حنيفة، والثوري: هما واجبتان في الجنابة دون الوضوء. واحتجوا بما روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المضمضمة والاستنشاق للجنب ثلاثًا فريضة". واحتج أبو ثور بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للقيط بن صبرة: "بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا". وهذا غلط