فإذا صح ما ذكرنا من مقدمات هذا الباب، فالدعوى الصحيح ممنوعة من كل جائز الأمر فيما يدعيه، على كل جائز الأمر فيما يدعي عليه سواء عرف بينهما معاملة، أو لم يعرف، ويعديه الحاكم إذا استعداه وإن جل قدر المدعى عليه وتصون.
وقال مالك: لا يعد به على أهل الصيانة، فلا يستحضره الحاكم، إلا أن يعلم أن بينهما معاملة، لئلا يستبذل أهل الصيانات، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم"، وهذا ليس بصحيح لقول الله تعالى:{يَا دَاوُودُ إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ولا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ}[ص: ٢٦] فأمره بالتسوية وترك الميل.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في عهده إلي أبي موسى: آسى بين الناس في وجهك، وعدلك، مجلسك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك، وقد احتكم علي بن أبي طالب عليه السلام ويهودي إلي شريح في حال خلافته فلم يمتنع أن يساوي في المحاكمة بين اليهودي وبين نفسه؛ ولأن خمول المدعي لا يمنع أن يكون ذا حق، وصيانة المدعى عليه، لا يمنع أن يكون عليه حق.
ولأن المعاملة لا تدل على بقاء الحق، وعدمها ل يمنع من حدوث الحق، فلم يكن لاعتبارها من الدعاوى وجه. والذي يجوز أن يستعمله الحاكم في تحاكم أهل الصيانة أن يميزهم عن مجالس العامة، ويفرد لمحاكمتهم مجالسًا خالصًا يصانون به، عن بذله العامة، يجمع فيه بينهم، وبين خصومهم، فلا ترد فيه الدعوى ولا تبتذل فيه الصيانة.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه:"وإذا ادعى الرجل الشيء في يدي الرجل فالظاهر أنه لمن هو في يديه مع يمينه، لأنه أقوى سببًا فإن استوي سببهما فهما فيه سواٌء فإن أقام الذي ليس في يديه البينة قيل لصاحب اليد البينة التي لا تجر إلي أنفسها بشهادتها أقوى من كينونة الشيء في يديك وقد يكون في يديك ما لا تملكه فهو لفضل قوة سببه على سببك، فإن أقام الآخر بينًة قيل قد استويتما في الدعوى والبينة والذي الشيء في يديه أقوى سببًا فهو له لفضل قوة سببه وهذا معتدٌل على أصل القياس والسنة على ما قلنا في رجلين تداعيا دابًة وأقام كل واحٍد منهما البينة أنها دابته نتجها فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي هو في يديه قال: وسواٌء التداعي والبينة في النتاج وغيره".
قالي في الحاوي: وأصل هذا أن مجرد الدعاوى في المطالبات لا يحكم في فصلها بحجة تقترن بها، فحجة المدعي البينة على إثبات ما دعاه، وحجة المدعى عليه اليمين على نفي ما أنكره لقول النبي صلى الله عليه وسلم"البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه".