وهذا كما قال، أراد بالبراز المبارزة، وجملته: انه إذا خرج رجل من المشركين ووقف بين الصفين وطلب البراز من المسلمين، لا يكره لمن يعلم من نفسه بلاء من المسلمين أن يخرج إليه فيقاتله، فإن كان مثله في الشجاعة والآلة والسلاح كان الخروج في مقاتلته مباحا وإن كان فوقه كان خروجا مستحبا، وإن كان دونه كان مكروها، وإن لم يطلب أحد من المشركين ذلك فهل يجوز للمسلم أن يبتدئ بطلب المبارزة وجهان:
أحدهما: يكره له، وبه قال صاحب " الإفصاح"؛ لأن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما خرجوا للمبارزة عند الطلب منهم؛ ولأنه لا بأس أن يخرج من المشركين من هو أشجع منه.
والثاني: يجوز ذلك وهو الأصح لما فيه من الرهبة في قلوب العدو. وذكر بعض أصحابنا على هذا الوجه الثاني أنه يستحب ذلك له.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: يكره كل ذلك إلا بإذن الإمام، وقال الحسن رحمه الله: تكره "١٩٧ أ/٣" المبارزة بكل حال. واحتج الشافي رحمه الله بما روي أن عبيدة وحمزة وعليا رضي الله عنهم بارزوا بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذه إشارة إلى قصة نذكرها، وهي: أن يوم بدر خرج من مصاف المشركين ثلاثة نفر عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة وهما أخوان، والوليد بن عتبة، وهو ابن أخي شيبة، وطلبوا البراز فخرج إليهم ثلاثة من الأنصار أبناء عفراء وعبد الله بن رواحة وكانوا متلثمين فاستنسبوهم فنسبوا لهم، وقالوا: نحن الأنصار فقالوا: أكفاء كرام ولكنا نريد قومنا، ثم نادوا: يا محمد اخرج لنا قومنا من قريش، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبيدة بن الحارث بن عبد المطب وهو ابن عمه، ولحمزة بن عبد المطلب عمه، ولعلي بن أبي طالب ابن عمه رضي الله عنه:"اخرجوا لهم"، وكان عبيدة شيخا له سبعون سنة فخرجوا لهم، فقالوا: من القوم فاستنسبوا لهم، فقالوا: أكفاء كرام فدار حمزة مع عتبة فلم يمهله أن قتله، ودار علي مع الوليد فلم يمهله أن قتله، واختلف بين شيبة وعبيدة ضربتان فضرب عبيدة لشيبة ضربة على عاتقه "١٩٧ ب/٣" الأيسر فأرخى كتفه، وضربه شيبة ضربة جزمت ساقه، فكر حمزة وعلي رضي الله عنهما على شيبة وقتلاه، ثم حملا عبيدة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ومخ ساقه يسيل فدعا له النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم مات بعد انقضاء الحرب بالصعواء عند منصرفه من بدر فصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودفن"، وروي أنه لما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومخ ساقه يسيل قال: أشهيد أنا يارسول الله؟ فقال: "نعم"، فقال: ووددت أنا أبا طالب كان حيا ليعلم أنا نحن أحق بهذا البيت منه حيث يقول:
ونسلم حتى ما نصرع حوله ونذهل عن أبنائنا والحلائل
ثم أنشأ يقول:
فإ تقطعوا رجلي فإني مسلم أرجي به عيشا من الله عاليا
وأبسني الرحمن من فضل منه لباسا من الإسلام غطى المساويا