للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الثاني: "أن التصديق يقبل التفاوت بحسب مراتبه، فما المانع من تفاوته قوةً وضعفًا، كما في التصديق بطلوع الشمس، والتصديق بحدوث العالم، وقِلَّةً وكثرةً، كما في التصديق الإجمالي والتصديق التفصيلي" (١)، فالتصديق يقبل الزيادة والنقصان، وما ذكروه من أن التصديق إن اختل ونقص كان شكًّا وكفرًا فإنه مدفوع بأن مراتب اليقين متفاوتة إلى علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين، مع أنها لا شك معها (٢).

ومما يشهد لتفاضل الناس بالتصديق وأنه يزيد وينقص ما ذكره السمين الحلبي من أن إيمان أبي بكر بلا شك ليس كإيمان أحدنا في القوة، بل هو أقوى بطِباق، وهذا مبني على أن تصديقه رضي الله عنه أعظم من تصديق غيره، وإلا لما حاز لقب (الصِّدِّيق)، ويشهد لذلك أيضًا ما يجده الإنسان في نفسه من أنه يكون أعظم تصديقًا في بعض الأحوال من بعضها بحسب ما ظهر له من البراهين، وأن تصديقه يتزايد بتزايد البراهين وظهورها، وينقص ويضعف إن لم تتبين له تلك البراهين أو كان غافلًا عنها (٣).

وليس الإيمان شيئًا واحدًا لا يتجزأ، بل قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن (الإيمان بضع وسبعون -أو بضع وستون- شُعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) (٤)، فلو كان الإيمان شيئًا واحدًا لتساوى المؤمنون في هذه الشُّعَب (٥)، "ففي هذا الحديث دليل على أن الإيمان فيه أعلى وأدنى، وإذا كان كذلك كان قابلًا للزيادة والنقص" (٦).

وهذا الحديث أيضًا يدل على أنه لا يلزم من نقص الإيمان أن يزيد الكفر المخرج من الملة، فإن المؤمن قليل الحياء ناقصٌ إيمانه ولا يخرجه ذلك من الملة، وهذ يدفع الإشكال بأنه إذا نقص الإيمان زاد الكفر، والعكس، وأنه لا يجتمع في القلب إيمانٌ وكفر (٧).

ثم إنه قد يجتمع في القلب إيمانٌ وخصلةٌ من النفاق، وإيمانٌ وشُعبةٌ من الكفر، كما قال


(١) روح المعاني للآلوسي (٥/ ١٥٦).
(٢) ينظر في لوامع الأنوار البهية للسفاريني (١/ ٤٣١).
(٣) ينظر في شرح النووي لمسلم (١/ ١٤٨)، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (٦/ ٤٨٠) والفتح لابن حجر (١/ ٤٦).
(٤) رواه البخاري في صحيحه (١/ ١١/ ٩) ومسلم في صحيحه (١/ ٦٣/ ٣٥) من حديث أبي هريرة.
(٥) ينظر ما ذكره ابن حبان في صحيحه (١/ ٣٨٨) عند تعليقه على حديث شُعب الإيمان.
(٦) تفسير الخازن (٢/ ٢٩١)، وفتح البيان لصديق حسن خان (٥/ ١٣١).
(٧) ينظر في الجوهرة المنيفة في شرح وصية الإمام الأعظم أبي حنيفة للملَّا حسين (ص: ١٠١).

<<  <   >  >>