للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ويبعُد أن يكون إرشادًا للمنافقين، وأن الضمير فيه يرجع إلى الأولياء، فإن كان المراد بالأولياء المنافقين، فلا مناسبة تظهر مع الآيات، بأن الشيطان يخوِّف المنافقين من شر الكافرين، فلا تخافوا أيها المؤمنون من المنافقين، وإنما المناسب أن يرجع الضمير إلى المحدَّث عنه في الآيات وهم الكافرون، ويكون راجعًا إلى أقرب مذكور وهم الأولياء، فيكون الأولياء هم الكافرون (١)، وهذا هو الموافق لقاعدتين في الترجيح: أن إعادة الضمير إلى المحدَّث عنه أولى من إعادته لغيره، وأن إعادة الضمير إلى أقرب مذكور أولى من إعادته إلى بعيد (٢).

إذا تبيَّن هذا، فإن الاستدلال بقوله تعالى {فَلَا تَخَافُوهُمْ} هو الرابط المشترك بين القول الأول والثاني، وذلك لما بينهما من التشابه، فبينهما اتفاق في المعنى في أن الشيطان لا يُوقع الخوف في أوليائه، وإنما يخوِّف المؤمنين بهم، وبينهما اتفاق في أن المراد بالأولياء أبو سفيان ومن معه، وأن قوله {أَوْلِيَاءَهُ} هو المفعول الثاني للفعل {يُخَوِّفُ}، وإنما افترقوا في سبب تعدي الفعل إلى المفعول الثاني، فأصحاب القول الأول جعلوه يتعدى إليه بسبب نزع الخافض، وأصحاب القول الثاني جعلوا الفعل يتعدى بنفسه إلى المفعول الثاني بسبب التشديد الذي في الفعل، وإن كان الأسهل في التقدير أن يتعدَّى الفعل بنفسه من غير الحاجة إلى حرف الجر، كما قال ابن الأنباري: "فهذا أشبه من ادعاء (باءٍ) ما عليها دليل، ولا تدعو إليها ضرورة" (٣)، وربما يقوِّي هذا ما جاء في القاعدة الترجيحية: (إذا دار الأمر بين قلة المحذوف وكثرته كان الحمل على قلته أولى) (٤).

وأما الاستشهاد بقراءة ابن مسعود وابن عباس: (يخوِّفكم أولياءه)، فإنه يوازي الاستشهاد بقراءة أُبي بن كعب: (يخوِّفكم بأوليائه)، وإذا اعتبرنا بتفسير ابن عباس للآية فإنه فسَّرها بقوله: "الشيطان يخوِّف المؤمنين بأوليائه"، بما يوافق القول الأول، وكذلك غيره من السلف ذكروا حرف الجر في تفسيرهم للآية كما تقدَّم، لكن الذي يظهر أنه يُتوسَّع في التفسير ما لا يُتوسَّع في التقدير، لأن التقدير هنا يراد منه بيان الوظيفة، وهي التعدِّي، فيُذكر أقل ما يتضح به التعدِّي، وأما التفسير فيراد منه بيان المعنى، فيُتوسَّع في التفصيل فيه.


(١) ينظر في مجموع الفتاوى لابن تيمية (١/ ٥٧)، وتفسير ابن عرفة (١/ ٤٤٥).
(٢) ينظر في قواعد الترجيح عند المفسرين للدكتور حسين بن علي الحربي (٢/ ٦٠٣، ٦٢١).
(٣) نقله ابن الجوزي في زاد المسير (١/ ٣٥٠)، وهو مختصر عند الواحدي في التفسير البسيط كما تقدَّم ذلك العزو.
(٤) ينظر في قواعد الترجيح عند المفسرين للدكتور حسين بن علي الحربي (٢/ ٤٤٨).

<<  <   >  >>