يجوز لأحد منهم تقليد غيره كالبصراء في القبلة، ولهذا خاطب الله تعالى جميع المكلفين وقال {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}[الذاريات: ٢١]. وقال عبيد الله بن الحسن العنبري: يجوز فيه التقليد، ونسب هذا إلى أحمد بن حنبل، ولا يصح عنه عندي. وعلى هذا من العلوم ما أنفع فيه التقليد أصلًا، وهو ما ثبت في
شرعنا بأخبار التواتر، كالصلاة والصيام والزكاة والحج، لأنه وقع العلم بها ضرورة بتواتر الأخبار.
العلم الثاني: ما يسوغ فيه التقليد، وهو من أحكام الدين من الحلال والحرام، وقدر الزكاة، وأحكام الصلاة والصيام ونحو ذلك. والناس فيه ضربان: عالم، وعامي. فالعامي يجوز له تقليد العالم في كل هذا. وقال بعض المتكلمين: لا يجوز حتى يعرف علة الحكم، وهذا غلط؛ لقوله تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}[النحل: ٤٣] ولأنا لو ألزمناه ذلك لشق [١٠ أ/ ١] واحتاج إلى الانقطاع عن المعيشة بتعلم ذلك، وهذا لا يجوز فأما العالم: فلا يخلو من أحد أمرين؛ إما أن يكون الوقت واسعًا أو ضيقًا فإن كان واسعًا لا يجوز التقليد بل عليه الاجتهاد. وقال مالك، وأحمد، وإسحاق: يجوز له التقليد. وقال محمد: يُقلد من هو أعلم منه ولا يقلد من هو مثله. وقال أبو حنيفة: يجوز قضاء العامي، ويجوز له أن يقلد غيره عند الحكم، ولذلك لو كان عالمًا ولكنه يتكاسل عن الاجتهاد والنظر، يقلد ويحكم، وهذا غلط؛ لأن معه آلة يتوصل بها إلى حكم الحادثة، فلا يجوز له التقليد كما في العقليات. والدليل على بطلان قول محمد خاصة، أن من لا يقلد من هو مثله لم يقلد من هو فوقه، كما في القبلة، وهذا لأنه يجوز أن يخطئ من يعتقد أنه أعلم في الدليل وهو يصيب ذلك. وإن كان الوقت ضيقًا فعامة أصحابنا على أنه لا يجوز له التقليد أيضًا، وهو ظاهر قول الشافعي فيؤدي تلك العبادة في الحال كلما أمكن، ثم يجتهد ويعيد.
وقال ابن سريج: إذا نزلت نازلة وضاق زمنها وخقت فوت الواجب، عليَّ فيها أن أقلد من هو في مثل حالي، وهذا غلط، لأن الاجتهاد شرط في صحة هذه العبادة، كالطهارة
شرط في صحة الصلاة، ولا يختلف ذلك بخوف فوتها وعدم الخوف كذلك هذا.
فإن قيل: أليس قلد الشافعي زيد بن حارئة - رضي الله عنهما - في الفرائض [١٠ أب ١]، وقلد عثمان بن عفان - رضي الله عنه - في بيع الحيوان بشرط البراءة وقال: تقليدًا لعثمان بن عفان - رضي الله عنه - وقلد في قبول خبر الواحد؟ قلنا: وافق رأيه رأي زيد في الفرائض وما قلده، واستأنس بقول عثمان -رضي الله عنه - في مسالة بيع الحيوان بشرط البراءة؛ لأنه ذكر الدليل، يقال: والحيوان يفارق ما سواه لأنه يفتدى بالصحة والسقم، وقلما يبرأ من عيب يخفي أو يظهر. ومن أصحابنا من قال: قام الدليل على وجوب قبول قول الصحابي فلا يسمى تقليدًا كقول الرسول صلى الله عليه وسلم: إذا قبلناه لا يسمى تقليدًا؛ لأنه لا يتوهم الشرفيه. وقيل: يسمى تقليدًا، ولكنه تقليد جائز بل واجب، لكونه معصومًا وأما خبر الواحد: فيجوز تقليد المخبر به إذا كان ظاهر الصدق؛ لأنه لا