للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عمرة" أي: لو علمت من قبل أن التمتع الذي أمرتكم به، أفضل ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة"، أي للتمتع فهذا دليل على أن التمتع أفضل من الإفراد لأنه تمنى ذلك، فلولا أنه أفضل من غيره ما تمناه، وقيل: إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا لأنه تداخلهم شيء من تحللهم مع بقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على إحرامه وودوا لو كانوا محرمين زمان إحرامه ومحلين زمان إحلاله، فأراد تطييب قلوبهم بهذا القول. وأيضاً كانوا في الجاهلية يستنكرون العمرة في شوال وذي القعدة وذي الحجة يستعظمونها ويعدونها من أكبر الكبائر، وأفجر الفجور، فلما أمروا بخلاف عادتهم، وخلاف فعل الرسول صلى الله عليه وسلم شق عليهم، فقالوا: يا رسول الله أنروح إلى منى ومذاكيرنا تقطر [٣٩/ب] منياً؟ أي: لقرب عهدنا بالجماع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا أي: أن سوق الهدى يمنعني عن مساعدتكم على العمرة، ولو عرفت في ابتداء الإحرام لما سقت الهدى ولجعلت إحرامي عمرة كما أمرتكم به، فهذا لم يكن لتمني التمتع، بل لهذا، فلا يدل ذلك على أن التمتع أفضل.

ثم أعلم أن مذهب أبي حنيفة وأحمد أن من ساق الهدي من المتمتعين لا يتحلل من عمرته، بل يطوف ويسعى، ثم يترك الحلق، ويقيم على إحرامه، ثم يحرم بالحج من جوف مكة، ثم يوم النحر من الحج والعمرة معاً، واحتج بهذا الخبر ذكرنا، لأن سوق الهدى منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من التحلل، وعندما لا فرق بين أن يكون ساق أو لم يسق في أنه يتحلل بأعمال العمرة، وبه قال مالك. والقصد من الخبر الذي ذكرنا أن من ساق لا يتمتع بل يحج حتى يبقى هدية متطوعاً به، فإنه لو تمتع احتاج إلى ذبحه عن متعته، ومن لم يسق الهدي لا تفوته فضيلة هدي التطوع، فلهذا فصل بينهما لا لما ذكره، والدليل على ما ذكرنا أن العمرة إحدى نسكي التمتع فسوق الهدى لا يمنع التحلل منه كالحج. ثم قال الشافعي (١): ومن قال: إنه أفرد الحج يشبه أن يكون قاله على ما يعرف أهل العلم الذين أدرك دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: من الصحابة أن أحداً لا يكون مقيماً على حج، وإلا وقد ابتدأ إحرامه بحج وأحسب عروة حين حدث أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم بحج ذهب إلى أنه سمع عائشة تقول: يفعل في حجه على هذا المعنى، فأول خبر من [٤٠/أ] روى مطلقاً أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد الحج.

فإن قيل: أليس مال الشافعي إلى الإفراد، وفضله على غيره، فكيف استعمل في هذا الفصل بتضعيف رواية من روى الإفراد؟ وقال: لما كثر سماعه لذكر الحج المفرد استجاز أن يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان مفرداً، قلنا: إنما اشتغل الشافعي بالاعتراض على التمسك بأحاديث الإفراد لأن الذي ثبت عنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمل الإحرام في الابتداء، ثم فسره بحج مفرد في الانتهاء. وهكذا روى جابر رضي الله عنه، وهو أحسن الصحابة سياقاً لحديث الحج من أوله إلى آخره، فلما رأى الشافعي عروة وغيره رووا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرم حين أحرم بحج اشتغل بتقديم رواية جابر على رواياتهم لا أنه ناقض هذا الفصل أول الباب في أخبار الإفراد وتفضيله على غيه وأكثر الغلط في الإخبار إنما


(١) انظر الأم (٢/ ٥٢، ٥٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>