للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

واعلم أن جماعة من الجهال طعنوا فيما ذكرنا، وقالوا: لم يحج النبي صلى الله عليه وسلم بعد قيام الإسلام إلا حجة واحدة، فكيف يجوز أن يكون في تلك الحجة مفرداً وقارناً ومتمتعاً، وأفعال نسكها مختلفة، وأحكامها غير متفقة، وأسانيدها كلها عند أهل الحديث جياد صحاح، ثم قد وجد فيها التناقض؟ ويريدون تهوين الإخبار، والجواب عن هذا ذكر الشافعي: أن العرب [٤٣/ب] في لغتهم، يجوزون إضافة الفعل إلى الآمر به كما يجوزون الإضافة إلى الفاعل، كما يقولون: بني فلان داراً إذا أمر ببنائها وضرب الأمير فلاناً إذا مر بضربه، وروي: رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ماعزاً وقطع سارق رداء صفوان ولم يباشره ولا شهده، ولكنه أمر به، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم المفرد، ومنهم القارن، ومنهم المتمتع، وكل واحد منهم أخذ أمر نسكه عن تعليمه فجاز أن تضاف كلها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على معنى أنه أمر بها وأذن فيها، وكل قال صدقاً، وروى حقاً، ولا ينكره إلا من جهل، أو عاند، والله الموفق.

ويحتمل أن يكون الراوي سمع قوله: لبيك، بحجة وعمرة على سبيل التعليم لغيره وتلقينه ذلك. فإن قيل: رأي سعيد بن المسيب أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أتى عمر بن الخطاب، فشهد عنده، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي قبض فيه، ونهى عن العمرة قبل الحج (١)، فما معناه؟ قلنا: قد قيل: هذا الخبر لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرتين قبل حجة، وجواز هذا إجماع، فلا يترك الأمر الثابت المعلوم بالأمر المظنون، ثم يحتمل أنه نهى اختيار، أو أنه أمر بتقديم الحج لأنه أعظم الأمرين وأهمهما، ووقته محصور، والعمرة ليس لها وقت موقوت، وقد قدم الله تعالى اسم الحج عليها، [٤٤/أ] فقال: {وأَتِمُّوا الحَجَّ والْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: ١٩٦]. فإن قيل: أليس قد قال معاوية بن أبي سفيان لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هل: تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ركوب جلود النمور وعن كذا وكذا؟ قالوا: نعم، قال: فتعلمون أنه نهى أن يقرن بين الحج والعمرة؟ قالوا: أما هذا فلا، فقال: أنها معهن ولكنكم نسيتم (٢)، فما معناه؟ قلنا: يشبه أن يكون ذلك على معنى الإرشاد ويجري الآخر ليكثر العمل، ويتكرر القصد إلى البيت، كما روى عن عثمان رضي الله عنه أنه سئل عن التمتع بالعمرة إلى الحج، فقال: إن أتم الحج والعمرة أن لا يكونا في أشهره فلو أفردتم هذه العمرة حتى تزورا هذا البيت زورتين كان أفضل، وقال عمر رضي الله عنه: أفصلوا بين الحج والعمرة، فإنه أتم لحجتكم وعمرتكم، وقيل: لم يوافق الصحابة معاوية على هذه الرواية، ولم يساعدوه عليه، ويشبه أن يكون ذهب في ذلك إلى تأويل قول حين أمر أصحابه في حجته بالإحلال فشق عليهم: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي"، وكان قارناً عند فحمل معاوية هذا الكلام منه على النهي.


(١) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (٨٨٦٨).
(٢) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (٨٨٦٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>