للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

"قصرت بهم النفقة" ليس أن مال قريش لم يسع لبناء البيت أو يخلو به، ولكن كانت للكعبة أموال من النذور والهدايا، فقالوا: لا ننفق في البيت [١١٤/ب] من أموالنا التي جرى فيها الربا، وإنمّا ننفق من مال البيت، فلهذا قصر المال عن ذلك وقيل: ما فضل من حجارة البناء وضعوه في جوف الكعبة، فلذلك ارتفعت عن وجه الأرض.

وروي أن البيت هدم قبل البعث بعشر سنين ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن ثلاثين سنة فلما بنوه تنازع بنو عبد مناف بن هاشم بن عبد المطلب وعبد شمس ونوفل في وضع الحجر الأسود في موضعه، وقال كل واحد منهم: نحن نضعه وكاد يقع بينهما قتال فتواضعوا على أن يرضوا بحكم أول من يدخل من باب بني شيبة، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا يسمونه في الجاهلية محمد الأمين فلما رأوه قالوا: محمد الأمين أتاكم من لا يميل فحكموه فحكم بأن يبسط رداء ويوضع الحجر عليه، ثم يأخذ كبير كل رهط بطرف منه حتى يحملوه إلى موضعه، فبسط رداءه ووضع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجر بيده عليه، فأخذوا بأطراف الثوب، فوضعه في موضعه بيده وكان بناؤهم على الصورة التي هو عليها اليوم، وقبل ذلك كان لاصقًا بالأرض ذا بابين شرقي وغربي، فلما خرج ابن الزبير بمكة هدم البيت وبناه كما كان قديمًا، وكما قال صلى الله عليه وسلم: "لولا حدثناهم بالكفر لفعلت ذلك"، فلما ظهر عليه الحجاج وقتله هدم البيت بالمنجنيق، وبني هذه البينة التي هو عليها اليوم، فلما ولّى هارون الرشيد هم بأن يهدمه ويبنيه كما بناه ابن الزبير، فقال له مالك بن أنس: لا تفعل هذا، فإن الملوك يتنافسون بعدك بناءه، فلا يزال بيت الله مهدومًا، فتركه فهو اليوم على بناء الحجاج وقدر شبرًا أو شبرين شاذروان البيت فإذا ثبت هذا، قال الشافعي في "الأم" (١): كمال الطواف أن يطوف [١١٥ أ/] من وراء الحجر، فإن طاف وسلك الحجر أو على جداره، أو على شاذروان الكعبة كان في حكم من لم يطف، وهذا لأنه طاف في البيت لا بالبيت. وقال تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ} [الحج: ٢٩] الآية.

وقال أصحابنا: إذا سلك الحجر فإن طوافه من الحجر إلى الحجر معتد به وما سلكه في الحجر وباقي الطواف إلى أن جاء إلى الحجر الأسود لم يعتّد به لأنه إذا لم يعتدّ بما قبله لا يجوز أن يعتدّ به لأن الترتيب مستحقّ فيه. وقوله: فسلك الحجر وهو تعميم الحجر بهذا الحكم، وليس كذلك لأن ما وراء ست أذرع ليس من الكعبة، فلو تسلق الطائف جدار الحجر في الذراع السابعة أو الثامنة، وخرج من الجانب الثاني كذلك، ولم تدخل الذراع السادسة يصحّ طوافه بالبيت، ولو سلك الحجر من أحد بابيه إلى الآخر تحت الميزاب لم يجز لأن ذلك الموضع من البيت، وقالت عائشة رضي الله عنها: كنت أحب أن أدخل البيت فأصلي فيه، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، فأدخلني الحجر. وقال: صلي في الحجر إن أردت دخول البيت، فإنما هو قطعة من البيت (٢)، ولكن قومك استقصروه حين بنوا الكعبة، فأخرجوه من البيت، وكذلك لو كان يمشي


(١) انظر الأم (٢/ ١٥٠).
(٢) أخرجه أحمد [٦/ ٩٦، وأبو داود (٢٠٢٨)، والترمذي (٨٧٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>