مثل إن لجأ إلى الحرم قطاع الطريق أو قوم ارتدوا أو بغوا على الإمام جاز أن يدخلوها محلّين، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلها يوم الفتح وعلى رأسه المغفر، ولو كان محرمًا لم يغط رأسه وجاز له الدخول من غير إحرام. فإن قيل: أليس عندمك دخلها صلحًا؟ فكيف تقولون: دخلها للقتال؟ قلنا: كان الصلح واقعًا مع أبي سفيان، ولم يكن آمنًا من غدرهم، فلأجل خوفه من ذلك احتاط.
وفي الخبر: ولا يدخلها إلا بجلبان السلاح وهو السيف والتراس ونحوهما، وقيل: هو شبه جراب من أدم يضع فيه الراكب سيفه بقرابه وسوطه يعلقه في وسط رحله أو في آخره، فإن قيل: كان هذا خاصّاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه قال:"إن الله تعالى حرّم مكّة يوم خلق السماوات والأرض، لم تحلّ لأحد قبلي ولا تحلّ لأحدٍ بعدي، وإنما أحلّت لي ساعةً من نهار، ثم عادت حرمتها كيوم خلق الله السماوات". قلنا: يحتمل أن يكون معناه: أحلّت لي ولمن هو في مثل حالي، ولا يثبت بذلك التخصيص، وإذا كان المعنى الذي لأجله جاز تركه موجود في حق غيره.
قال الشافعي في "المناسك الكبير": ويجوز عندي لمن دخلها خائفًا من سلطان أو من أمر لا يقدر على دفعه ترك الإحرام [٧٦/أ] إذا خافه في الطواف والسعي، وإن لم يخافه فيهما لم يجز له. وجملة هذا أن يخاف من غريم يلازمه ويحبسه، ولا يتمكن هو من أداء حقّه، وإن كان دخولها لحاجةٍ لا تتكرر مثل إن دخل لرسالة أو لتجارة أو لزيارة أو للمقام بها مجاوراً أو غير مجاور، ففيه قولان.
قال في مواضع: يجب الإحرام، وهو الأشهر. وبه قال ابن عمر رضي الله عنه، لأن مكّة مباينة لسائر البلدان في الفضل والحرم'. ولهذا لو نذر أن يدخل مكّة لزمه الإحرام، وأومأ في بعض كتبه إلى أن الإحرام استحباب. قال أبو إسحاق: وهذا هو الصواب لأنه تحية المكان، فلا يجب كتحية المسجد. وقال أبو حامد قال في عامة كتبه لا يجب الإحرام وله كلام في "الأم" يدلّ على الوجوب فقد قيل: قول واحدٌ لا يجب، وكلام القفال يدلّ على هذا، وما تقدم أصحّ، ولا فرق عندنا في هذا بين أن يكون أهله دون الميقات أو وراء الميقات.
وقال أبو حنيفة إن كانت داره وراء الميقات لا يجوز له دخولها إلا بالإحرام سواء كان للقتال أو غيره وإن كانت داره دون الميقات يجوز له دخولها من غير إحرام، وهذا غلط لأن الحرمة في ذلك للمحرم لا للميقات ألا ترى أن من مرّ من بالميقات ولا يريد الحرم لا يشرع له الإحرام، فلا معنى لما قالوه، وروي عن ابن عباس انه قال: لا يدخل أحد مكّة إلا محرماً، ورخّص في ذلك للحطابي، وإن كان دولها لحاجةٍ تتكرر مثل الرعاة والحطابين. ويقال: الميرة وكل من تكرر دخوله من أهل السواد لمنافع أهلها. قال في "الإفصاح": هل يجب عليهم الإحرام؟ مرتبًا على القولين في غيرهم، فإن قلنا: إن غيرهم لا يجب عليهم الإحرام، ففي هؤلاء وجهان:
أحدهما: يجب.
والثاني: لا يجب، لأنا لو كلفناهم لأدى إلى الحرج [١٧٦/ب] والمشقة لتكرر