والرابع: الركاز، جعل أبو حنيفة مصرفها الفيء استدلالاً بثلاثة أشياء:
أحدهما: أن المستحق فيها الخمس كالفيء والغنيمة مباينة لمقادير الزكوات كلها، فانصرف مصرف الفيء لا مصرف الزكاة.
والثاني: أن الحق فيها معجل وفي الزكاة مؤجل فلو جريا مجرى الزكاة المأخوذة من المسلمين لتأجلت ولما تعجلت المأخوذة من المشركين.
والثالث: إذا اعتبر بالركاز حال الدافن أنه كافر، وقد ملك عنه كالفيء والغنيمة. ودليلنا، قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وليس في المال حق سوى الزكاة" ولأنه حق يجب في مال مسلم فلم يجز أن يكون فيئاً كالزكاة، ولأن أربعة أخماسه لما خرجت عن حكم الفيء خرج خمسه عن حكم الفيء.
وتحريره أن ما لم يجز على المستبقى منه حكم الفرع لم يجز على المأخوذ منه حكم الفيء كسائر أموال المسلمين، ولأن حق المعدن والركاز لما اختص ببعض أموال دون بعض كالزكاة كان زكاة ولم يجز أن يكون فيئاً لاستواء حكمه في جميع الأموال.
وأما الجواب عن استدلاله باستحقاق الخمس فيه فهو أن مقادير الزكوات مختلفة فتارة يكون ربع العشر وتارة نصف العشر وتارة العشر، ولا يخرج عن أن يكون جميع ذلك زكاة فكذلك تكون تارة الخمس، ولا يخرج عن أن يكون زكاة ويكون اختلاف المقادير بحسب اختلاف المؤمن ألا ترى أن ما سقي بناضح أو رشاء لما كثرت مؤنته قلت زكاته، فكانت نصف العشر وما بسيح أو سماء لما قلت مؤونته كثرت زكاته، فكانت العشر، ولما لم يكن للركاز مؤنته أضعفت زكاته فكانت الخمس.
وأما الجواب عن استدلاله بتعجيل الحق فيه فهو لأنه تعجلت الفائدة به فتعجل الحق، وما تأجلت الفائدة به تأجل الحق فيه، ألا ترى أن ما لم تكمل فائدته إلا بالحول ووعي فيه الحول كالمواشي، وما كملت فائدته قبل الحول لم يراعى فيه الحول كالزروع والثمار.
وأما الجواب عن اعتباره بحال الدافن دون الواجد فهو أن اعتباره بالواجد دون الدافن أولى من وجهين:
أحدهما: أنه اعتبر بحال الدافن لما جاز أن يسلك لجواز أن يكون لمن لا يملك عليه ما له من مسلم أو من هو على دين موسى وعيسى قبل التبديل أو لمن لم تبلغه الدعوة، وكل هؤلاء لا يجوز أن تملك عليهم أموالهم فلم يجز أن يعتبر به الدافن.
والثاني: أنه لو اعتبر به الدافن لما جاز أن يملك الواحد أربعة أخماسه، ولكان إما ملكا للغانمين أو لأهل الفيء فيثبت أن اعتباره بحال الواحد أولى من اعتباره بحال الدافن والله أعلم.