بالبيع وغيره، وليس كذلك الوقف، لأنه ليس بتمليك بدليل أن الموقوف عليه لا يملك التصرف فيه ببيع ولا غيره.
فصل:
إذا وقف أرضًا أو داراً، فالمذهب الصحيح أن ملك الواقف يزول عن الموقوف بالوقف كما يزول بالبيع وغيره وخرج أبو العباس فيه قولًا آخر أنه لا يزول ملكه، واحتج من نصره بقول النبي صلى الله عليه وسلم:"حبس الأصل وسبل الثمرة" وتحبيس الأصل يدل على بقاء الملك، وهذا غلط، لأن الوقف سبب بقطع تصرف الواقف في الرقبة والمنفعة فوجب أن يزيل الملك، والدليل عليه البيع والعتق وغيرهما.
وإن الجواب عما ذكروه فهو أن المراد به التحبيس ذكره أبو العباس، فإذا ثبت أن ملك الواقف يزول عن الموقوف فهل يزول إلى الموقوف عليه فيملكه أو ينتقل ملكه إلى الله تعالى؟ اختلف أصحابنا في ذلك على ثلاثة طرق فهم من قال المسألة على قولين:
أحدهما: أن الملك ينتقل إلى الله تعالى ولا ينتقل إلى الموقوف عليه والذي يدل عليه من كلام الشافعي في هذا الباب أنه قال: كما يملك المحبس عليه منفعة المال لا رقبته.
والآخر: أنه ينتقل إلى الموقوف عليه، والذي يدل عليه من كلام الشافعي أنه ذكر من كتاب الشهادات أن الرجل إذا أوعى وقفًا عليه فأقام شاهدًا أو أحدًا حلف معه، وهذا يدل على أن الملك قد انتقل إليه وخالف ذلك العتق، لأنه لا يقبل فيه اليمين والشاهد، فلو ادعى العبد أن سيده أعتقه وأقام على ذلك شاهدًا واحدًا لم يحلف معه فإذا تقرر القولان، فإن قال إنه ينتقل الملك إلى الموقوف عليه فوجهه أن الوقف لا يخرج الموقوف عن المالية، ألا ترى أنه يطعن بالغصب ويثبت عليه اليد وليس فيه أكثر من أنه لا يملك بيعه، وذلك لا يدل على أنه ما ملكه لأن السيد لا يبيع أم الولد وهي ملك له، وإذا قلنا: إن الملك ينتقل إلى الله تعالى، فوجهه أنه إزالة ملك عن الرقبة والمنفعة على وجه التقرب إلى الله تعالى فوجب أن ينتقل الملك إليه كالعتق.
والجواب عن دليل القول الأول هو أنه ينتقص بحصير المسجد فإنها تضمن باليد وليست ملكًا لأحد من الآدميين وأما الطريقة الثانية من أصحابنا من قال أن الملك ينتقل إلى الله تعالى قولًا واحدًا كما ذكر الشافعي هاهنا وما ذكروه في الشهادات من قبول الشاهد واليمين على الوقف فإن ذلك لا يدل على أن الملك قد انتقل إلى الموقوف عليه، لأن الوقف وإن كان ينتقل ملكه إلى الله تعالى فإن المقصود به انتفاع الموقوف عليه فإن كان دارًا، فالمقصود به أن يأخذ عليه وإن كان بستانًا فالمقصود أن يأخذ ثمرته، وذلك المقصود مال، وكلما كان المقصود به مالًا قبل فيه الشاهد واليمين، وأما الطريقة الثالثة فإن من أصحابنا من قال: إن الملك ينتقل إلى الموقوف عليه قولًا واحدًا، والذي ذكره الشافعي هاهنا فإنما أراد به لا يملك بيع الموقوف كما لا يملك العتق بيع رقبته.