تجب، فالوصية للأجانب، وهذا مجمع عليه، فقد أوصى البراء بنمعرور للنبي - صلى الله عليه وسلم - بثلث ماله فقبله، ثم رده على ورثته. وأما التي اختلف فيها: فالوصية للأقارب. ذهب أهل الظاهر من قدمنا ذكره في تفسير الآية إلى وجوبها للأقارب، تعلقًا بظاهر قوله تعالى:{الوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ والأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًا عَلَى المُتَّقِينَ}[البقرة: ١٨٠] وبما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:«من مات من غير وصية، مات ميتة جاهلية». وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته عنده مكتوبة».
والدليل على أنها غير واجبة للأقارب والأجانب، ما روي ابن عباس وعائشة، وابن أبي ليلي رضي الله عنهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يوص.
وروي الشافعي عن سفيان عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه سعد بن أبي وقاص قال:«مرضت عام الفتح مرضًا أشرفت منه على الموت، فأتاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعودني فقلت: يا رسول الله: إن لي مالًا كثيرًا، وليس يرثني إلا ابني، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا، قلت: فبالشطر. قال: لا. قلت: فالثلث؟ قال: الثلث. والثلث كثير. إنك إن تدع ورثتك أغنياء خيرًا من أن تدعهم عالة يتكففون الناس». فاقتصر به النبي - صلى الله عليه وسلم - في الوصية على ما جعله خارجًا مخرج الجواز، لا مخرج الإيجاب. ثم بين أن غني الورثة بعده أولى من فقرهم.
وروي أبو زرعة عن أبي هريرة قال: قال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم - يا رسول الله أي الصدقة أفضل؟ قال:«أن تتصدق وأنت صحيح حريص، تأمل الغني وتخشي الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان».
فلما جعل الصدقة في حال الصحة أفضل منها عند الموت، ثم لم تكن في حال الصحة واجبة، فأولى أن لا تكون عند الموت واجبة. وروي ابن أبي ذؤيب عن شرحبيل عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:«لأن يتصدق المرء في حياته بدرهم، خير له من أن يتصدق بمائة عند موته» ولأن الوصية لو وجبت لأجبر عليها، ولأخذت منه ماله إن امتنع منها، كالديون والزكوات ولأن الوصايا عطايا فأشبهت الهبات.
فأما الآية: فمنع الوالدين من الوصية مع تقديم ذكرها فيها، دليل على نسخها وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من مات من غير وصية مات ميتة جاهلية» فمحمول على أحد أمرين، وأما على من كانت عليه ديون حقوق لا يوصل إلى أربابها إلا بالوصية، فتصير الوصية ذكرها وأدائها واجبة.