وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده» فهذا خارج منه مخرج الاحتياط ومعناه ما الحزم لامرئ. على أن نافعًا قال لابن عمر بعد أن روي هذا الحديث حين حضره الموت: هلا أوصيت؟ قال: أما مالي، فالله أعلم ما كانت أفعل فيه في حياتي، وأما رباعي، ودوري، فما أحب أن يشارك ولدي فيها أحد. فلو علم وجوب الوصية لما رواه لما تركها.
فصل: فإذا ثبت ما وصفنا من جواز الوصية دون وجوبها فالوصية تشتمل على أربعة شروط:
وهي: موصي، وموصى له، وموصي به، وموصي إليه.
فأما الفصل الأول: وهو الموصي فمن شرطه أن يكون مميزًا، حرًا، فإذا اجتمع فيه هذان الشرطان صحت وصيته في ماله مسلمًا كان أو كافرًا.
فأما المجنون، فلا تصح وصيته، لأنه غير مميز، وأما الصبي فإن كان طفلًا غير مميز فوصيته باطلة. وإن كان مراهقًا ففي جواز وصيته قولان:
أحدهما: لا يجوز. وبه قال أبو حنيفة، واختاره المزني لارتفاع القلم عنه كالمجنون ولأن الوصية عقد فأشبهت سائر العقود.
والقول الثاني: وبه قال مالك أن وصيته جائزة لرواية عمرو بن سليم الزريقي قال: «سئل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عن غلام يبلغ من غسان أوصي لبنت عمه وله عشر سنين، وله وارث ببلد آخر، فأجاز عمر -رضي الله عنه- وصيته، ولأن المعني الذي لأجله منعت عقوده هو المعني الذي لأجله أمضيت وصيته، لأن الحظ له في منع العقود، لأنه لا يتعجل بها نفعًا، ولا يقدر على استدراكها إذا بلغ. والحظ له في إمضاء الوصية، لأنه إن مات فله ثوابها وذلك أحظ له من تركه على ورثته. وإن عاش وبلغ، قدر على استدراكها بالرجوع فيها فعلي هذا: لو أعتق في مرضه، أو حابي، أو وهب ففي صحة ذلك وجهان:
أحدهما: أنه صحيح ممضي، لأن ذلك وصية تعتبر في الثلث.
والوجه الثاني: أنه باطل مردود، لأن الوصية يقدر على الرجوع فيها إن صح والعتق والهبة لا يقدر على الرجوع فيها إن صح.
فأما وصية المحجور عليه بسفه، فإن قيل بجواز وصية الصبي، فوصية السفيه أجوز، وإن قيل ببطلان وصية الصبي، كانت وصية السفيه على وجهين، لاختلافهم في تعليل وصية الصبي، فإن علل في إبطال وصيته بارتفاع القلم عنه جازت وصية السفيه لجريان القلم عليه، وإن علل في إبطال وصية الصبي بإبطال عقوده، بطلت وصية السفيه لبطلان عقوده.