سعيد بن المسيب عن أبي سعيد الخدري: أن رجلًا أعتق ستة مملوكين عند موته، فرفع ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فأقرع بينهم، فأعتق اثنين، ورد أربعة إلى الرق».
فدل هذا الحديث على ثلاثة أحكام خالف فيها أبو حنيفة: أحدها: أنه جزأهم ثلاثة أجزاء، لتتكامل الحرية والرق، وأبو حنيفة لا يجزئهم. والثاني: أنه أقرع بينهم لتمييز الحرية من الرق، وأبو حنيفة لا يقرع بينهم. والثالث: أنه كمل الحرية في اثنين، والرق في أربعة، وأبو حنيفة يعتق من كل واحد ثلثه، ويرق ثلثيه، وما خالف النص كان مدفوعًا.
فإن قالوا: معني هذا الحديث مستعمل في غير ما قلتموه، وهو أن قوله: «جزأهم ثلاثة أجزاء» أي: جعل جزءًا حرية، وجزأين رقًا.
وقوله: «أقرع بينهم» أي: استقصاء في اعتبار القيمة اشتقاقًا من المقارعة، لا من القرعة مأخوذ من قولهم: قرع فلان فلانًا إذا استقصي عليه.
وقوله: أعتق اثنين، وأرق أربعة أي أعتق سهمين، وأرق أربعة أسهم.
قيل: هذا تأويل معدو لبه عن الظاهر بغير دليل، ويبطل بالدليل. أما قولهم: إن معني جزأهم أي جعل جزءًا حرية، وجزأين رقًا، فليس بصحيح، لأن هذه تجزئة الأحكام دون الأعيان، وحمل التجزئة على الأعيان أولى من حملها على الأحكام؛ لأمرين: أحدهما: أن تجزئة الأحكام معلومة بالعتق، فاستغنت عن تجزئة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. والثاني: أنها فعل، والفعل متوجه إلى الأعيان دون الأحكام.
وأما قولهم: إن معني أقرع أي استقصي في القيمة، فليس بصحيح من وجهين:
أحدهما: أنه لو أعتق من كل واحد ثلثه، لم يحتج إلى اعتبار القيمة.
والثاني: أن القرعة بينهم لا تكون قرعة في قيمتهم.
وأما قولهم: «أعتق اثنين» أي: سهمين «وأرق أربعة» أسهم فليس بصحيح من وجهين: أحدهما: أنه لو كان ما قالوه لكان العتق بينهما والرق سهمين. والثاني: أن التجزئة مغنية عن هذا فلم يجز أن يحمل على ما لا يفيد، وهذا مغنٍ عن التجزئة، فلم يجز أن يفعل ما لا يفيد.
وأما الاستدلال عليهم فمن وجهين: أحدهما: على جواز التجزئة لتكميل الحرية، وتكميل الرق. والثاني: على جواز القرعة لتمييز الحرية من الرق.
وأما الدليل على جواز التجزئة لتكميل الحرية والرق، فمن وجهين:
أحدهما: أن التجزئة موافقة لأصول الوصايا أن لا يمضي في الوصايا إلا ما يحصل للورثة إلا مثلاه، فإذا جزئوا أثلاثًا، وعتق منهم اثنان، رق أربعة للورثة، فصار لهم مثلًا ما خرج بالعتق، وإذا أعتق ثلثهم على ما قالوا، واستسعوا في باقيهم خرج بالعتق ما لم يحصل للورثة مثلاه، وتردد مال السعاية بين أن يحصل، فيتأخر به حقوق الورثة، وبين أن لا يحصل، فتبطل به حقوق الورثة، وما أدي إلى واحد منهما كانت الأصول مانعة منه.