ثم اعلم أن أفضل الفقهاء فقهًا وأحسنهم ترتيبًا ونظمًا الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي -رضي الله عنه حكي عنه أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام قبل حُلمي، فقال له:"يا غلام" قلت: لبيك يا رسول الله، فقال:"من أنت"؟ قلت: من رهطك يا رسول الله، فقال:"ادنُ مني"، فدنوت فأخذ شيئًا من ريقه ففتحت فمي، فأمره على لساني وفمي وشفتي، فما أذكر أني لحنت بعد ذلك في حديث ولا شعر".
وحكي عن تلميذه أبي إبراهيم المزني أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، فسألته عن الشافعي -رحمه الله - فقال: من أراد محبتي وسنتي فعليه بمحمد بن إدريس الشافعي، فإنه قال: "الأئمة من قريش".
وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم: "قدموا قريشًا ولا تقدموها، وتعلموا [٣ ب/ ١] منها ولا تعلموها". قال المزني: أي لا تفاخروها.
وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم: "من رأى رجلًا من قريش أفضل ممن رأى رجلين من غيره".
وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا قريشًا، فإن عالمها يملأ طبق الأرض علمًا". وهذا متعين في الشافعي رحمه الله.
وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم في هذا: "البيان تبع لقريشٍ فمسلمهم تبع لمسلمهم، وكافرهم تبع لكافرهم". ولم نجد في الأئمة المشهورين قرشيًا سارت منه الكتب في الأقطار، واستظهرها الكبار وأدوجها إلى الصغار غير الشافعي رضي الله عنه، فلهذا اتبعناه وسلكنا مذهبه، وأيضًا فإنه جمع من العلم ما لم يجمعه غيره من الأئمة، فإن مالكًا والأوزاعي والثوري وغيرهم لهم قدم في الآثار ومعناهم ضعيف. وأبو حنيفة والعراقيون لهم قدم في المعاني وأثرهم ضعيف. والشافعي جمع الآثار والمعاني، فإنه لما قدم العراق سمى ناصر السنة والحديث، ولا يقول بتخصيص العلة لقوة معانيه بخلاف غيره، وصنف في الأصول وبني عليها الفروع فتكون أحوط، وانفرد لمعرفة اللغة وأيام العرب، فإنه عربي الدار واللسان. وحكي عن بعضهم أنه قال: تلقى شيئًا من غرائب كلام الشافعي -رحمه الله - على الرياشي شيء قدر ما كف بصره، فقال: هذا من كلام مَنْ؟ فقلنا: هذا من كلام