وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حجة الوداع: "ألا أن دماؤكم وأموالكم وأعراضكم عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، اللهم اشهد".
فصل:
فإذا ثبت تحريم القتل بالكتاب والسنة مع انعقاد الإجماع وشواهد العقول فالقصاص فيه واجب لقول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ فِي القَتْلَى الحُرُّ بِالْحُرِّ والْعَبْدُ بِالْعَبْدِ والأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وأَدَاءٌ إلَيْهِ بِإحْسَانٍ}[البقرة: ١٧٨] يعني أن العفو يوجب استحقاق الدية، يطالب بها الولي بمعروف، ويؤديها القاتل إليه بإحسان، ذلك تخفيف من ربكم ورحمة، يعني: التخيير بين القصاص والدية، وتخفيف من الله تعالى على هذه الأمة، لأن قوم موسى عليه السلام أوجب عليهم القصاص دون الدية، وقوم عيسى عليه السلام أوجب عليهم الدية دون القصاص، وخيرت هذه الأمة بين الأمرين، فكان تخفيفاً من الله تعالى ورحمة وقال:{ولَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ}[البقرة: ١٧٩] لأن القصاص وإن لم يكن في استيفائه حياة فوجوبه سبب للحياة، لأن القاتل إذا علم بوجوب القصاص عليه كف عن القتل، ولم يقتص منه فصار حياة لهما، وهذا من أوجه كلام وأوضح معنى.
وقيل: إنه في التوراة: يا بني إسرائيل لا تقتلوا تقتلوا، بين المعنيين فرق إذا سبر، وتعاطت العرب مثل ذلك، فقالوا: القتل أنفي للقتل، وكان لفظ القرآن أفصح، ومعناه أوضح وكلامه أوجز، وقال:{ومَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا}[الإسراء: ٣٣] فيه تأويلان:
أحدهما: أنه القصاص، وهو قول قتادة.
والثاني: أنه الخيار بين القصاص والدية، أو العفو عنهما، وهو قول ابن عباس. فلا يسرف في القتل فيه تأويلان:
أخدهما: أن يقتل غير قاتله، وهو قول طلق بن حبيب.
والثاني: يمثل به إذا اقتص وهو قول ابن عباس.
وتأوله سعيد بن جبير وداود تأويلاً ثالثاً: أن يقتل الجماعة بالواحد. إنه كان منصوراً فيه تأويلان.
أحدهما: أن الولي كان منصوراً بتمكينه من القصاص وهو قول قتادة.
والثاني: أن المقتول كان منصوراً بقتل قاتله، وهو قول مجاهد، وقال: {وكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا