للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولما اختلف حكم القتل باختلاف الأعيان جاز أن يختلف بالمكان والزمان. وأما اعتبارهم نفوس الأحرار بنفوس العبيد والأموال. فالفرق بينهما: أنه لما لم يختلف في نفوس العبيد والأموال غرم العمد والخطأ لم يختلف الزمان والمكان, ولما اختلف في نفوس الأحرار غرم العمد والخطأ اختلف بالزمان والمكان والله أعلم.

فصل:

فأم استيفاء القصاص والحدود في الحرم فيجوز أن يقتص في الحرام من القاتل في الحل والحرم, وكذلك إقامة الحدود.

وقال أبو حنيفة: لا يجوز أن يقتص من القاتل في الحل إذا لجأ إلي الحرم, ويلجأ إلي الخروج منه بالهجر وترك المبايعة والمشاراة معه حتى يخرج فيقتص منه في الحل استدلالًا بقول الله تعالى: {إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وهُدًى لِّلْعَالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إبْرَاهِيمَ ومَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران ٩٦ - ٩٧] وقوله تعالى: {أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا ويُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت ٦٧] فوجب بهاتين أن يكون داخله آمنًا, وليس قتله فيه أمنًا.

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أعتى الناس على الله القاتل غير قاتله والضارب غير ضاربه والقاتل في الحرم, والقاتل في الجاهلية" وقوله: "القاتل في الحرم" يعني قودًا وقصاصًا؛ لأن ابتداء القاتل داخل في قوله: "القاتل غير قاتله" ولأن حرمة الحرم منتشرة عن حرمة الكعبة فلما لم يجز قتله في الكعبة لم يجز قتله فيما انتشرت حرمتها إليه من جمع الحرم, ولأن حرمة الآدميين أغلظ من حرمة الصيد, فلما حرم قتل الصيد إذا ألجأ إلي الحرم كان قتل الآدمي أشد تحريمًا.

ودليلنا عموم الظواهر من الكتاب والسنة في القصاص وإن لما يقترن بها تخصيص الحل من الحرم, لأن كل قصاص جاز استيفاؤه في الحل جاز استيفاؤه في الحرم كالقاتل في الحرم ولأن كل قصاص استوفى من جانبه في الحرم استوفى منه إذا لجأ إلي الحرم كالأطراف, لأن أبا حنيفة وافق عليها, ولأن كل موضع كان محلًا للقصاص إذا جني فيه كان محلًا, وإن جني في غيره كالحل, ولأن النص وارد بتحريم الهجر وإباحة البيع قال الله تعالى: {وأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة ٢٧٥] , وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث" فأمر أبو حنيفة بهجره وهو محظور ومنع من بيعه وهو مباح, وأخر الاقتصاص منه وهو واجب فصار في الكل مخالفًا للنص.

فأما الجواب عن قوله تعالى: {ومَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران ٩٦] فهو أنه

<<  <  ج: ص:  >  >>