أما الحرم فلقول الله تعالى:{ولا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ المَسْجِدِ الحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ}[البقرة: ١٩١].
ولرواية أبي سعيد المقبري عن أبي شريح الكعبي أن رسول الله صل الله عليه وسلم حرم مكة "فمن كان يؤمن بالله واليوم الأخر فلا يسفك فيها دماً، ولا يعضدن فيها شجراً "فإن رخص مترخص فقال: إنها أحلت لرسول الله صل اله عليه وسلم فإن الله أحلها لي ساعة، ثم هي حرام إلى أن تقوم الساعة، ولأنه لما تغلظ بالحرم حرمة الصيد كان أولى أن نغلظ به نفوس الآدميين.
وقال تعالى:{َسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ}[البقرة: ٢١٧]. وقد قال: القتال فيها محرماً في صدر الإسلام لعظم حرمتها وأما ذو الرحم فلقول الله تعالى: {والَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ ويَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ويَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ}[الرعد: ٢١] فقيل: هي الرحم أمر الله بوصلها، ويخشون ربهم في قطعها، ويخافون سوء الحساب في المعاقبة عليها، ولأن رسول الله صل الله عليه وسلم منع أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة: من قتل أبيه يوم بدر، وقال:"دعه يلي قتله غيرك "حتى قتله حمزة بن عبد المطلب، ومنع أبا بكر من قتل ابنه عبد الرحمن يوم أحد، وإذا كانت هذه الثلاثة مخصوصة بزيادة الحرمة وعظم المأثم في القتل جاز أن يختص بتغليظ الدية كالعمد وعمد الخطأ. ويدل عليه من طريق القياس أنه قتل في الحرم فكان العمد والخطأ في قدر غرمه سواء كقتل الصيد.
وأما الجواب عن عموم جواب ابن مسعود فتخصيصه بدليلنا.
وأما قياسهم على الكفارة، فالجواب عنه أنها لما لم تتغلظ بالعمد لم تتغلظ بهذه الأسباب، والدية لما تغلظت بالعمد تغلظت بهذه الأسباب. وأما قياسهم على العمد فالمعنى فيه أنه قد استوفى غاية التغليظ فلم يبق للتغليظ تأثير والخطأ بخلافه، وأما اعتبارهم حرم مكة بحرم المدينة فقد اختلف أصحابنا فيه فمنهم من غلظ الدية فيها كتغليظها بمكة من قوله في القديم إن صيدها مضمون فعلى هذا يسقط الاستدلال. وقال الأكثرون: لا تتغلظ الدية فيها وإن تغلظت بحرم مكة؛ لأن حرم مكة أغلظ حرمة لاختصاصه بنسكي الحج والعمرة، وتحريم الدخول إليه إلا بإحرام، فلذلك تغلظت الدية فيه بخلاف المدينة، وهكذا اختلف أصحابنا في تغليظ الدية بالقتل في الإحرام على هذين الوجهين: وأما اعتبارهم الأشهر الحرام بشهر رمضان فغير صحيح، لأن حرمة شهر رمضان مختصة بالعبادة دون القتل، وحرمة الأشهر الحرم مختصة بالقتل فلذلك تغلظت الدية بالأشهر الحرم ولم تتغلظ بشهر رمضان، وأما اعتبارهم ذا الرحم بذي النسب، فلا يصح، لأن حرمة الرحم أقوى لاختصاصها بالتوارث والنفقة، وأما اعتبار القتل بالزنا، فالفرق بينهما: أن الزنا لما لم يختلف حكمه باختلاف الأعيان لم يختلف المكان والزمان