للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فلم تؤثر فيه التوبة مما لم يكن, فوجب أن يكون الحكم فيهما على سواء.

قال: ولأن الزندقة أعظم فسادًا في الأرض من الحرابة لجمعها بين فساد الدين والدنيا, فلما لم تقبل توبة المحاربين بعد القدرة فأولى أن لا تقبل توبة الزنديق بعد القدرة.

قال: ولأن الظاهر من توبة الزنديق أن يستدفع بها القتل, كما كان الظاهر من توبة المحارب استدفاع القتل بهما, فوجب أن تحمل توبته على الظاهر من حالها في دفع القتل بها, كما حملت توبة المحارب على الظاهر من حالها.

ودليلنا: قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا ولا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} [النساء ٩٤].

وقرأ أبو جعفر: لست مؤمنًا-بفتح الميم-من الأمان.

وقراءة الجمهور بالكسر من الإيمان.

وفيها على كلا القرائتين دليل لما حكاه السدي عن سبب نزولها:

"أن رجلًا يقال له: مرداس بن عمر الفدكي كانت له غنيمات لقيته سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: السلام عليكم لا إله إلا الله محمد رسول الله فبدر إليه أسامة بن زيد فقتله, فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: لم قتله وقد أسلم؟ قال: إنما قالها متعوذًا قال: هلا شققت عن قلبه. ثم حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته إلي أهله, ورد عليهم غنمه".

وروى عطاء بن زيد الليثي, عن عبيد الله بن عدي بن الخيار "أن رجلًا سار رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يدر ما ساره, حتى جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يستأذنه في قتل رجل من المنافقين, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أليس يشهد أن لا إله إلا الله. قال: بلى, ولا شهادة له. قال: أليس يصلي. قال: بلى, ولا صلاة له.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أولئك الذين نهاني الله عنهم".

وروى عبيد الله بن عدي بن الخيار أن المقداد بن عمرو الكندي قال: "يا رسول الله أرأيت إن لقيت رجلًا من الكافر فقاتلني, فضرب إحدى يدي فقطعها, ثم لاذ مني لشجرة, فقال: أسلمة لله أقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟

قال: لا تقتله, فإن قتلته فإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته وهو بمنزلتك قبل أن تقتله, فدلت الآية والخبر على الأخذ بالظاهر دون السرائر, ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر".

ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبل من المنافقين ظاهر إسلامهم, وإن تحقق باطن كفرهم, بما أطلعه الله تعالى عليه من سرائرهم في قوله تعالى: {إذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ واللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ واللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (١) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المنافقون ١ - ٢].

وقرئ: إيمانهم - بكسر الهمزة من الإيمان, والأول من اليمين.

<<  <  ج: ص:  >  >>