وقال تعالى: {ويَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إنَّهُمْ لَمِنكُمْ ومَا هُم مِّنكُمْ ولَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} [التوبة ٥٦].
فلم يؤاخذهم بما أطلعه الله تعالى عليه من سرائرهم التي تحقق بما كفرهم, اعتبر ما تظاهروا به من الإسلام وإن تحقق فيه كذبهم, فوجب أن يكون أمثالهم من الزنيدقة ملحقين بهم وداخلين في حكمهم.
فإن قيل: إنما كف عنهم لنه لم يعرفهم بأعيانهم, ولو عرفهم لما كف عنهم. قيل: قد كانوا أشهر من أن يخفوا, هذا عبد الله بن أبي ابن سلول وهو رأس المنافقين, قد تظاهر بالنفاق وأبدى معتقده في مواضع منها:
قوله تعالى: {وعَدَنَا اللَّهُ ورَسُولُهُ إلاَّ غُرُورًا} [الأحزاب ١٢].
وقوله في غزوة تبوك: {لَئِن رَّجَعْنَا إلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون ٨].
فأخبر الله تعالى بذلك عنه, فلما رجع إليها من الغزاة جرد ابنه عليه سيفه, وقال والله لئن لم تقل إنك الأذل ورسول الله الأعز, لأضربنك بسيفي هذا, فقالها, ولأن إقراره بالزندقة أقوى من قيام البينة بها عليه, فلما قبلت توبته إذا أقر بها كان أولى أن تقبل في قيام البينة بها.
ولأنه لو جاز أن يختلف حكم التوبة في جهر الكفر وسره, لكان قبول توبة المساتر أولى من قبول توبة المجاهر, لأن الجهر به يدل على قوة معتقده, والاستسرار به يدل على ضعف معتقده, فلما بطل هذا كان علته أبطل, ولأنها توبة من كفر, فوجب أن تقبل كالجهر.
فأما الجواب عن قوله: {ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} [آل عمران ٩٠] فهو أنه قد تعارض فيها ما يتنافي اجتماعهما, لأن من ازداد كفرًا لم يتب, ومن تاب لم يزدد كفرًا, وإذا تنافي ظاهرهما صار تأويلها محمولًا على تقدم التوبة على ما حدث بعدها من زيادة الكفر, فيحبط حادث الكفر سابق التوبة.
وأما الجواب عن قوله: إنه بالتوبة مظهر للإسلام مستبطن للكفر, وهكذا هو قبلها.
فهو أننا ما كلفنا منه إلا الظاهر من حاله, وهو في الباطن موكول إلي ربه, ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحاسبوا العبد حساب الرب".
وقد يجوز أن تؤثر التوبة في باطنه كتأثيرها في ظاهره.
وأنا الجميع بينه وبين المحارب فلا يصح, لافتراقهما غي معنى الحكم, لأن الحرابة يقتل فيها بظاهر قوله الدال على معتقده, فجاز أن يرفعها ما جانسها من القول في توبته, ويحمل ذلك على زوال معتقده.
فأما الجواب عن قوله: إن الظاهر منها استدفاع القتل.
فهو أن هذا الظاهر لا يمنع من قبول التوب في الممرتد كما لا يمنع إسلام الحربي إذا قدم للقتل من قبول إسلامه والكف عن قتله والله أعلم.