وأما الإجماع فلا خلاف بين المسلمين في تحريمها وكان بعض الصحابة يعتقد إباحتها في أول الإسلام منهم قدامة بن مظعون وعمرو بن معدي كرب وكانوا يتأولون قوله تعالى:{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوا وَّآمَنُوا}[المائدة: ٩٣] الآية فأنكرت الصحابة عليهم وبينوا أن هذه الآية مخصوصة في الخمر فرجعوا عن القول وأجمعوا على تحريمها فمن استحلها اليوم كفر.
واعلم أن عندنا العصير يصير خمرًا بشرطين: الشدة، والسكر، وقال أبو حنيفة: يشترط شرط آخر وهو أن يقذف بزبده، وقيل: سمي خمرًا لأنه يخمر عصيره في الإناء أي: يغطى حتى يصير خمرًا ولو لم يغط لم يصر خمرًا والتخمير: التغطية، وقيل:[١٠٧/ أ] سمي خمرًا لأنه يخامر العقل بالسكر أي: يغطيه، واعلم أن المسلمين كانوا يشربونها في أول الإسلام، واختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: كانوا يشربونها استصحابًا لحالهم في الجاهلية لأنه لم يتقدم منع منها ولا تحرم وهذا أشبه، وقال بعضهم: استباحوا شربها بشرع ورد فيه وهو قوله تعالى: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا}[النحل: ٦٧] فالسكر: ما أسكر من الخمر والنبيذ والرزق الحسن ما اتخذ من التمر والزبيب والرطب وهذا قول ابن عباس رضي الله عنه ومجاهد وقتادة وسعيد بن جبير ثم نسخ هذا بتحريم الخمر، وقيل: السكر: الخل بلغة الحبشة، وقيل: بلغة أزد عمان، وقيل: السكر: الطعام والرزق الحسن والإيمان. ثم نزل تحريم الخمر، وقيل في سبب تحريمها: أن قبيلتين من الأنصار ثملوا من الشرب فعبث بعضهم ببعض حتى وقعت الضغائن في قلوبهم فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ}[المائدة: ٩٠] الآية، وقيل: إن سعد بن أبي وقاص صنع طعامًا ودعا ناسًا من الصحابة وشوى لهم رأس بعير وفيهم رجل من الأنصار فعضب من شيء تكلم به سعد بن أبي وقاص فكسر أنفه بلحي جمل فأنزل الله تعالى تحريمها.
وقيل: إن رجلًا سكر من الخمر فجعل ينوح على قتلى بدر فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب وأقبل الرجل [١٠٧/ب] فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا كان بيده ليضربه فقال: "أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسول الله لا أطعمها أبدًا" فنزل تحريمها. وقيل: إن عبد الرحمن بن عوف صنع طعامًا وشرابًا ودعا نفرًا من الصحابة فأكلوا وشربوا حتى ثملوا فقدموا رجلًا منهم يصلي بهم المغرب فقرأ: قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون وأنت عابدون ما أعبد وأنا عابد ما عبدتم لكن دينكم ولي ديني، فنزل قوله تعالى:{لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى}[النساء: ٤٣] الآية، وقيل: سبب تحريمها ما روى أبو ميسرة أن عمر رضي الله عنه قال: اللهم بين لنا في الخمر على ما ذكرنا فهذه خمسة أقوال في سبب تحريهما، وقال الحسن البصري: تحريم الخمر بالآية التي في سورة البقرة وقرأ حمزة: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} وما كثر إثمه لم تجز استباحته وكان ما بعدها