إسلامه ولو زاد وراحلة يقدر على الخروج، فأما من كان مستضعفًا لا يقدر على إظهار إسلامه ولا زاد ولا راحلة يحتملانه إلى دار الإسلام أو كان قادرًا على إظهاره آمنًا من الكفار برهطه وعشيرته فإن هذين الضربين لم تفرض عليهما الهجرة [١٥٤/ب] والأصل فيه قوله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ}[النساء ٩٧] الآية. ثم قال:{إلاَّ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ والنِّسَاءِ}[النساء ٩٨] الآية. وجملته أن الناس في الهجرة على ثلاثة أضرب منهم من يستحب له ولا تجب عليهم وهو من أسلم وله قوة بأهله وعشيرته يقدر على إظهار دينه آمنًا. وإنما استحب لئلا يكثر سواد المشركين به وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث يوم الحديبية عثمان رضي الله عنه إلى مكة لأن عشيرته كانت أقوى القوم بمكة فأكرم ولم يبعث ضعفاء قومه.
ومنهم من يجب عليه الهجرة وهو من لم يأمن على نفسه في إظهار دينه ويقدر على الهجرة. ومنهم من لا يجب عليه ولا يستحب له وهو الضعيف الذي لا يقدر لمرضه أو لفقره وهو بمنزل المكرهين ومن أكره على الكفر فلا إثم عليه. واعلم أن فرض الهجرة على هذا التفصيل باق ما دام الشرك قائمًا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تنقطعالهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها". فإن قيل: فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا هجرة بعد الفتح" قلنا: له تأويلان أحدهما: أراد لا هجرة من مكلة لأنها صارت [١٥٥/أ] دار الإسلام أبدًا. والثاني: أراد لا فضيلة للهجرة بعد الفتح مثل ما كانت قبل الفتح لأن الهجرة والإنفاق كان أفضل في ذلك الوقت قال الله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفَتْحِ وقَاتَلَ}[الحديد ١٠]. وقال الإمام أبو سليمان الخطابي رحمه الله: وجه الجمع بين الخبرين أن الهجرة كان مندوبًا إليها في أول الإسلام بقوله تعالى: {وهَاجَرُوا وجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}[التوبة ٢٠] وقوله: {ومَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وسَعَةً ومَن}[النساء ١٠٠] ثم لما انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة اشتد أذى المشركين على المسلمين فوجبت الهجرة عليهم حتى ينتقلوا إلى حضرته ليكونوا معه فيتعاونوا ويتظاهروا وليتعلموا منه أمر دينهم فلما فتحت مكة قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح: "لا هجرة ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا" وارتفع وجوب الهجرة وعاد الأمر إلى الندب فهما هجرتان فالمنقطعة منهما هي الفرض والباقية هي الندب وسائر أصحابنا أجمعوا على أن فرض الهجرة على من آمن فيها باقيًا ما بقي للشرك دار وهذا هو الصحيح، ولعله أراد الهجرة من مكة إلى المدينة والله أعلم.
وفي تسميتها هجرة وجهان أحدهما: أنه يهجر فيها ما ألف من وطن وأهل، والثاني: أنه يهجر فيها العادة من عمل وكسب. واعلم أن القاضي الإمام أبا الحسن