فخلى بين المهاجرين وأراضيهم وديارهم وقال أبو يوسف: لأنه عفا عنهم ودخلها عنوة وليس النبي صلى الله عليه وسلم في هذا كغيره. قال الشافعي: ما دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم عنوة وما دخلها إلا صلحاً والذين قاتلوا وأذن في قتلهم بنو نفاثة قتله خزاعة وليس لهم بمكة دار إنما هربوا إليها وأما غيرهم ممن دفع فادعوا أن خالدًا بدأهم بالقتال ولم ينفذ لهم الأمان وادعى خالد أنهم بدأوه ثم أسلموا قبل أن يظهر لهم على شيء ومن لم يسلم صار إلى قبول الأمان بما تقدم من قوله عليه السلام: "من ألقى سلاحه فهو آمن ومن دخل داره فهو آمن" فمال من يغنم ولا يقتدي إلا بما صنع عليه الصلاة والسلام وما كان له خاصة فمبين في الكتاب والسنة وكيف يجوز قولهما بجعل بعض مال المسلم فيئاً وبعضه غير فيء أم كيف يغنم مال مسلم بحال. قال المزني رحمه الله: قد أحسن والله الشافعي في هذا وجود".
قال في الحاوي: اختلف العلماء في فتح مكة، هل كان عنوة أو صلحًا؟ فذهب الشافعي إلى أن مكة فتحت صلحاً بأمان علقه رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرط شرطه مع أبي سفيان بن حرب وحكيم بن حزام غداة يوم الفتح، قبل دخول مكة على إلقاء سلاحهم وإغلاق أبوابهم ووافق الشافعي على فتحها صلحاً أبو سلمه بن عبد الرحمن، وعكرمة، ومجاهد، والزهري وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وقال مالك، وأبو حنيفة، وأكثر الفقهاء، وأصحاب الرأي: إن مكة فتحت عنوة، فمن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهلها، فلم يسب ولم يغنم لعفوه عنهم، واختلف من قال بهذا، هل كان عفوه عنهم خاصًا أو عامًا لجميع الولاة؟ فقال أبو يوسف كان هذا خاصاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يعفو عما فتحه عنوة وليس ذلك لغيره من الأئمة.
وقال غيره: بل عفوه عام في الأئمة بعده، يجوز لهم أن يعفوا عما فتحوه عنوة كما جاز عفو رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أهل مكة وقد فتحها عنوة، وهذا هو تأثير الخلاف في فتحها عنوة أو صلحًا أن من ذهب إلى فتحها صلحًا لم يجعل للإمام أن يعفو عما فتح عنوة، ومن ذهب إلى فتحها عنوة جعل الإمام أن يعفو عما فتحه عنوة، واستدل من ذهب إلى فتحها عنوة بقول الله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} يعني مكة، والفتح المبين الأقوى، فدل على أنه العنوة وبقوله تعالى:{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} وظاهر النصر هو الغلبة والقهر، وبقوله:{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} فصرح القول بالظفر فدل على العنوة، وبقوله تعالى:{أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ} وهذا توبيخ على ترك القتال، ثم قال: بعده: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} وهذا أمر بالقتال، فصار حتماً لا يجوز على الرسول خلافه، وبقوله تعالى:{فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ} فنهاه عن السلم مع قوته، وقد كان في دخول مكة قوبًا فكانت هذه الآيات الخمس من دلائلهم،