ففرح المسلمون بذلك، وبادر أبو بكر إلى كفار قريش، فأخبرهم بما أنزل الله على رسوله من أن الروم ستغلب فارسا، وتقامر أبو بكر وأبي بن خلف على هذا بأربع قلائص إلى ثلاث سنين، وكان القمار يومئذ حلالًا، فلما علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أن أبا بكر قدر لهم هذه المدة أنكرها، وقال: ما حملك على ما فعلت؟ قال: ثقة بالله ورسوله. قال: فكم البضع؟ قال: ما بين الثلاث إلى العشر. فقال له: زدهم في الخطر، وازدد في الأجل فزادهم قلوصين وازداد منهم في الأجل سنتين، فصارت القلائص ستا، والأجل خمسًا، فلما أراد أبو بكر الهجرةً علق به أبي بن خلف وقال له: أعطني كفيلًا بالخطر إن غلبت، فكفل به ابنه عبد الرحمن بن أبي بكر ثم إن الله تعالى أنجز وعده في غلبة الروم لفارس في عام بدر، ونصر رسوله على قريش يوم بدر، وقيل: إنه كان النصران في يوم واحد، فعلم بهذا الخبر أن الفرس، وهم المجوس، لم يكن لهم كتاب، وأن الروم من النصارى هم أهل الكتاب، ولأنهم لو كانوا أهل كتاب، لظهر فيهم كظهور التوراةً والإنجيل، ولجرت عليهم من استباحة مناكحهم، وأكل ذبائحهم أحكام أهل الكتاب كاليهود والنصارى.
وإذا قلنا بالقول الثاني إنهم أهل كتاب، فدليلنا رواه الشافعي، عن سفيان بن عيينة، عن أبي سعيد بن المرزبان، عن نصر بن عاصم، قال: قال فروة بن نوفل الأشجعي على ما تؤخذ الجزية من المجوس، وليسوا بأهل كتاب، فقام إليه المستورد، فأخذ بلبته وقال: يا عدو الله تطعن على أبي بكر، وعمر وعلى أمير المؤمنين - يعني عليا - وقد أخذوا منهم الجزية، فذهب به إلى القصر فخرج علي - عليه السلام - فقال: اتئدا فجلسنا في ظل القصر، فقال: أنا أعلم الناس بالمجوس، كان لهم علم يعلمونه، وكتاب يدرسونه، وإن ملكهم سكر، فوقع على ابنته أو أخته، فاطلع عليه بعض أهل مملكته فلما صحا جاءوا يقيمون عليه الحد، فامتنع منهم فدعا أهل مملكته، فلما أتوه قال: أتعلمون دينًا خيرًا من دين آدم، وقد كان ينكح بنيه من بناته، وأنا على دين آدم ما نزعت بكم عن دينه، فبايعوه، وقاتلوا الذين خالفوهم حتى قتلوهم، فأصبحوا وقد أسري على كتابهم فرفع من بين أظهرهم، وذهب العلم الذي في صدورهم فهم أهل كتاب.
وقد أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر وعمر منهم الجزية، وانتشار هذا مع عدم المخالف فيه إجماع منعقد، ولأن الاتفاق على جواز أخذ الجزية منهم، وهي مقصورة على أهل الكتاب تجعلهم من أهل الكتاب الداخلين في قوله تعالى:{مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}[التوبة: ٢٩]. ولأنهم قد كانوا ينتسبون إلى نبي مبعوث، ويتعبدون بدين مشروع، ولا يكون ذلك إلا عن كتاب يلتزمون أحكامه، ويعتقدون حلاله وحرامه.