لو أراد القاضي في حكمه بالشاهد واليمين أن لا يذكره في كتابه ويطلق الحكم بالبينة أو بثبوت الحق عنده جاز لأنه يحكم باجتهاد نفسه ولا يحكم باجتهاد غيره.
مسألة: قال: "وإن أنكر المكتوب عليه لم يأخذه به حتى تقوم بينة بأنه هو".
صورة المسألة أن يدعي حقًا على غائب وسأل الحاكم سماع البينة عليه فالحاكم يسمع البينة لأنا لو قلنا: لا يسمع لكان من عليه حق به بينة يهرب إلى بلد آخر حتى لا تسمع البينة عليه فيؤدي إلى ضياع الحقوق, فإن سأل الحاكم البينة, وسأله المدعي أن يحكم بالحق فإنه لا يحكم إلا بشرطين: أحدهما: أن تثبت عنده عدالة الشهود ظاهرًا وباطنًا على ما ذكرنا, والثاني: أن يحلفه على أن حقه ثابت عليه فيحلف بالله الذي لا إله إلا هو أنه حقه عليه ما قبضه ولا شيئًا منه ولا أبرأه ولا أحال به عليه وأنه ثابت عليه إلى هذا الوقت, وإنما حلفناه على ذلك لأنه يمكن أن يكون حدث بعد البينة قضاء وأبرأه لمن عليه الحق, ولو ادعى ذلك سمعت دعواه وحلف الخصم عليه, فإذا كان غائبًا لا يعبر عن نفسه حلف الخصم واحتياطًا وهكذا الكل من ادعى على من لا يعبر عن نفسه كالطفل والمجنون والميت وأقام بينة, فإنه يحلف مع البينة للمعنى الذي ذكرنا وليس هذا الاستحلاف لثبوته البينة ولكن لإمكان إن حدث بعد البينة قضاء أو إبراء, فإذا حلف المدعي وثبت عند الحاكم عدالة الشهود وسأله الخصم الحكم حكم به, وقال مالك وأحمد وابن شبرمة والليث والأوزاعي, وحكي عن أحمد في رواية أنه لا يحلف لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه قلنا: الحاكم مأمور بالاحتياط في حق الغائب والخبر محمول على الحاضرين, وقال شريح وعمر بن عبد العزيز والثوري وأبو حنيفة وأصحابه لا يحكم على الغائب إلا أن يكون خصم حاضر من وكيل أو شفيع واحتجوا بما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على قلبي وقال: إن الله عز وجل سيهدي قلبك ويثبت لسانك, فإذا اختصم إليك اثنان فلا تقضي للأول حتى تسمع من الآخر فإنك لا تدري كيف تقضي؟ فقال: ما زلت بعد ذلك قاضيًا, وروي فما شككت في قضاء بعد, ودليلنا ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهند امرأة أبي سفيان أم معاوية: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف, وروي: ما يكفيك وبنيك وهذا قضاء على الغائب بعلم نفسه, وروي أن معاوية قال لأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما: أنشدك الله أتعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اختصم إليه الخصمان ضرب لهما أجلًا فوفى أحدهما: ولم يف الآخر, يعني: حضر أحدهما: ولم يحضر الآخر قضى عليه فقال: أما إذا أنشدتني فقد كان يفعل ذلك.
ولأن أبا حنيفة رحمه الله وافقنا أنه لا تسمع البينة عليه فنقول: بينة عادلة مسموعة