فأما حقوق الآدميين فتجوز فيها الإشهاد على الشهادة، سواء كان مما لا يثبت بشاهدين كالنكاح، والطلاق، والعتق، والنسب، والقصاص، والقذف، أو كان يثبت بشاهدين كالنكاح، والطلاق، والعتق، والنسب، والقصاص، والقذف، أو كان يثبت بشاهد وامرأتين كالأموال، أو كان يثبت بالنساء منفردات كالولادة وعيوب النساء.
وقال أبو حنيفة: لا تجوز الشهادة على الشهادة فيما يسقط بالشبهة كحد القذف والقصاص، ويجوز فيما عداه من حقوق الآدميين المحضة.
وبه قال بعض أصحاب الشافعي استدلالاً بأن ما سقط بالشبهة كان محمولاً على التخفيف، والشهادة على الشهادة تغليظ فتنافيا. وهذا فساد، لأن حقوق الآدميين موضوعة على التغليظ وفيما عدا الأموال التي يجوز أن يستباح بالإباحة، فلما صحت الشهادة على الشهادة في الأموال التي هي أخف، كان جوازها في المغلظ أحق.
وأما حقوق الله تعالى المحضة، كحد الزنى وشرب الخمر والقطع في السرقة، ففي جواز الشهادة فيها على الشهادة قولان منصوصان:
أحدهما: تجوز الشهادة فيها على الشهادة، وتثبت بشهود الفرع كثبوتها بشهود الأصل، اعتباراً بحقوق الآدميين؛ لأن حقوق الله تعالى التي لا تسقط بالعفو أحق بالاستيفاء مما يجوز أن يسقط بالعفو.
والثاني: وبه قال أبو حنيفة أنه لا تجوز فيها الشهادة، ولا تثبت إلا بشهود الأصل دون شهود الفرع، لأنها موضوعة على سترها وكتمانها ودرئها بالشبهات لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ادرؤوا الحدود بالشبهات ما استطعتم".
وقوله عليه السلام: "من أتى من هذه القاذورات شيئاً فليستتر بستر الله" فكانت لأجل ذلك منافية لتأكيدها بالشهادة على الشهادة.
وكذلك القول في كتاب القاضي إلى القاضي، كالقول في الشهادة على الشهادة. تجوز في حقوق الآدميين، وفي جوازها في حقوق الله تعالى قولان.
والفصل الثالث: في صفة الإشهاد على الشهادة.
وهو معتبر بما تحمله شاهد الأصل. وله في صحة تحمله حالتان:
إحداهما: أن يشاهد السبب الموجب للحق من حضوره عقد بيع أو إجازة أو نكاح يسمع فيه البذل والقبول، أو مشاهدته لقتل أو إتلاف مال، أو سماعه للفظ القذف، فيصح تحمله من غير إقرار ولا استرعاء. ويجوز أن يشهد به، ويشهد على نفسه بمثل ما تحمله.
والثانية: أن يشهد على الإقرار بالحق، فهو على ضريين:
أحدهما: أن يسمع إقرار المقر عند الحاكم وهو يقول: "الفلان علي كذا درهم". فيصح تحمل الشاهد لهذا الإقرار من غير أن يسترعيه المقر للشهادة، ويقول: "أشهد علي بهذا"؛ لأن العرف في الإقرار عند الحكام أن لا يكون إلا بالحقوق الواجبة فاستغنى بالعرف عن الاسترعاء.