أحدهما: أن المشركين كانوا يطعنون في نسب أسامة بن زيد حارثة، لأن زيدًا كان قصيرًا عريض الأكتاف أخنس أبيض اللون، وكان أسامة مديد القامة أقنى أسود اللون، وكان زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره القدح فيه وفي أسامة، فلما جمع مجززًا المدلجي بينهما في النسب، بقوله:"هذه أقدام بعضها من بعض" سر رسول الله صلى الله عليه وسلم لزوال القدح فيهما، ممن كان يطعن في نسبهما فلو لم تكن القيافة حقًا، لما سر بها؛ لأنه لا يسر ببطال ولرد ذلك عليه، وإن أصاب، لأن لا يأمن من الخطأ في غيره.
والثاني: أن الشرع مأخوذ عن الرسول صلى الله عليه وسلم من قوله وفعله، وإقراره، فكان إقراره لمجزز على حكمه شرعًا من الرسول صلى الله عليه وسلم في جواز العمل به.
يدل عليه ما روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم إلى الأبطح فرأى بعض قافة الأعراب، فقال: ما أشبه القدم بقدم إبراهيم التي في الحجر، فألحقه بالجد الأبعد، وأقره على اقتفاء الأثر ولم ينكر، فثبت اعتبار الشبه بالقافة شرعًا، ويدل على اشتهاره في الإسلام، أنه لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر رضي الله عنه إلى غار ثور مختفيًا فيه من قريش، أخذت قريش قائفًا يتبع به أقدام بني إبراهيم فيتبعها حتى انتهى إلى الغار ثم انقطع الأثر فقال: إلى هاهنا انقطع أثر بني إبراهيم، فلم يكن من الرسول صلى الله عليه وسلم فيه إنكار فثبت أنه شرع ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اعتبر الشبه في ولد العجلاني، فقال:"إن جاءت به على نعت كذا فلا أراه إلا وقد صدق عليها، وإن جاءت به على نعت كذا فلا أراه إلا وقد كذب عليها" فجاءت به على النعت المكروه.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لولا الأيمان" وروي: "القرآن لكان لي ولها شأن" يعني في إلحاق الولد بالفراش، ونفيه عن العاهر، ولولا أن الشبه مع جواز الاشتراك حكم، لأمسك عنه كيلا يقول باطلًا فيتبع فيه وقد نزه الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم عن قول الباطل كما نزهه عن فعله.
ويدل عليه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إذا غلب ماء الرجل كان الشبه للأعمام، وإذا غلب ماء المرأة كان الشبه للأخوال". فدل على أن للشبه تأثيرًا فيما أشبه. فقد كان بعض أصحابنا يستدل عليه بقول النبي صلى الله عليه وسلم:"اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله". فجعل للفراسة حكمًا، ويدل عليه من طريق الإجماع اشتهاره في الصحابة، رضي الله عنهم أنهم فعلوه، وأقروا عليه، ولم ينكروه، حتى روي أن أنس بن مالك شك في ابن له، فأراه القافة، ولو كان هذا منكرًا لما جاز منهم إقرارهم على منكر، فصار كالإجماع، وقد جرى في أشعارهم ما يدل على اعتبار القيافة عندهم، واشتهار صحتها بينهم، حتى قال شاعرهم: