للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الأمصار، فعزم -رضي الله عنه- على الجمع بين النسخ لما في السطور ونقله من السطور إلى الصدور، فاجتمع بذلك أمران:

الأمر الأول: نسخ المكتوب في السطور

الأمر الثاني: نقل المكتوب في السطور بعد النسخ إلى الصدور، وكان ذلك بإرسال القراء الكبار مع المصاحف المنسوخة عن المصحف الإمام.

فقد بعث عثمان- رضي الله عنه- مع كل نسخة من تلك النسخ المنسوخة قارئًا متقنًا يقرئ من أرسل إليهم على أن توافق قراءته القراءة التي في مصحفه الذي أرسل به، فبعث زيد بن ثابت (ت: ٤٥ هـ) -رضي الله عنه- وأمره أن يقرئ بالمدني، وبعث عَبْدَ اللهِ بْن السَّائِبِ بْن أَبِي السَّائِبِ الْمَخْزُومِيّ الْعَائِذِيّ الْقَارِئ (ت: ٦٣ هـ) (١) -رضي الله عنه- وأمره أن يقرئ بالمكي، وبعث المغيرة بن أبي شهاب عبد الله بن عمرو بن المغيرة بن ربيعة المخزومي (ت: ٩١ هـ) -رحمه الله- وأمره أن يقرئ بالشامي وبعث أبا عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السلمي -رحمه الله- (ت: ٧٤ هـ) وأمره أن يقرئ بالكوفي، وبعث عامر بن عبد القيس التميمي العنبري البصري-رحمه الله- (٢) وأمره أن يقرئ بالبصري، فجمع-رضي الله عنه- بذلك بين الموافق لما كُتِبَ في السطور لما هو محفوظ في الصدور، وذلك لأن المعول عليه الأول في تلقي القرآن هو الأخذ بالرواية والتلقي والمشافهة لا على المكتوب في المصاحف فحسب، فتلقى عنهم أهل الأمصار وتعلموا منهم حتى أضحى منهم أئمة أعلام يُتلقى عنهم القرآن، وأصبحت تلك المصاحف تنسب لقراء

تلك الأمصار لما اشتهروا به من الضبط والإتقان لتلك القراءة التي أرسل بها القارئ حتى زماننا الحاضر، فكان فِعْلُ عثمان- رضي الله عنه- ببعث المصاحف إلى الأمصار مع القراء لا يُقال في مثله إلا أنه من إرهاصات تحقق وعد رب البريات الوارد في قوله جل في علاه: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) (الحجر: ٩)، وهذا من التمهيد لحفظه إلى الأبد، إلى أن يُرفع في آخر الزمان.

وفي نحو ذلك يقول الزرقاني (ت: ١٣٦٧ هـ) -رحمه الله- في مناهل العرفان:

وبهذا يُعرف كيفية انتشار هذه المصاحف لأن الاعتماد في نقل القرآن على التلقي من صدور الرجال ثقةً عن ثقةٍ وإمامًا عن إمام إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، لذلك اختار عثمان حفاظًا يثق بهم وانفذهم إلى الأقطار الإسلامية واعتبر هذه المصاحف أصولاً ثواني - ثانوي- مبالغة في


(١) - مات في زمن عبد الله بن الزبير
(٢) تُوُفِّيَ فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ- رضي الله عنه-.

<<  <   >  >>