للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (البقرة: ٢٣٤) فإنها ناسخة لآية الاعتداد بحول كامل وهي قوله تعالى: (والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعًا إِلَى الحول غَيْرَ إِخْرَاجٍ) (البقرة: ٢٤٠)

ولقد ذهب جمهور العلماء إلى أن الآية الأولى ناسخة للآية الثانية كما مر معنا آنفًا.

وقد كانت العدة حولًا كاملًا، ثم نسخ ذلك بأربعة أشهر وعشر، وآية الاعتداد بأربعة أشهر وعشر هذه وإن كانت متقدمة تلاوة على آية الاعتداد بآية الحول، إلاّ أنها متأخرة عنها نزولًا فإن ترتيب المصحفي ليس ترتيبًا نزوليًا كما هو معلوم، وإنما هو ترتيب توقيفي.

هذا وقد ذهب بعض أهل العلم إلى عدم وجود نسخ في الآية، وإنما هو نقصان من الحول كصلاة المسافر لما أُنقصت من أربع إلى اثنين لم تكن نسخًا، إنما كانت تخفيفًا.

وفي تفنيد ذلك القول يقول القرطبي:

"وهذا غلطٌ بيّن، لأنه إذا كان حكمها أن تعتد سنة، ثم أزيل هذا ولزمتها العدة أربعة أشهر وعشرًا فهذا هو النسخ، وليست صلاة المسافر من هذا في شيء". (١)

ذلك مع أن الآية الأولى كُتِبَت في المصاحف قبلها، وهي متأخرة نزولًا عنها بلا شك لوجوب تأخر الناسخ عن المنسوخ، ولو أن القرآن جُمِعَ كاملًا في مكان واحد لكان في ذلك من العنت والمشقة والتكلف والحرج ما الله به عليم لأنه عُرضة لتغير مواضع الآيات والسور خاصة مع تنجيم القرآن وتتابع نزوله في ثلاث وعشرين سنة، فكتابة القرآن مفرقًا في الجمع الأول في العهد النبوي ضرورة حتمية لا مفر منها أبدًا.

وقد مر معنا ذكر طرف من ذلك، وأعيد بيانه هنا لمسيس الحاجة لبيانه، وبأسلوب مغايرة وزيادة بيان وإيضاح.

[المطلب الثاني: أدوات الكتابة المستخدمة في هذا الجمع]

والكتابة في هذا العهد المبارك كانت بدائية للغاية لحكم جليلة وعظيمة فالأمة فتية الإيمان، منشرحة الصدر، مطمئنة النفس، والوحي يتنزل غضًا طريًا، وأنفسهم زكية وطاهرة ومقبلة على ربها طواعية، وخير معلم عرفته البشرية-صلى الله عليه وسلم- فداه أبي وأمي بين أظهرهم يعلمهم ويرشدهم كما قال ربنا: (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) (الجمعة من آية: ٢) فهو يهديهم ويزكي أنفسهم بالكتاب وبالأعمال الصالحة التي تقربهم من ربهم وخالقهم ومعبودهم، ويشحذ هممهم ويرفع من معنوياتهم.


(١) - تفسير القرطبي: (٣/ ١٧٤)، البحر المحيط: (٢/ ٢٢٤).

<<  <   >  >>