للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والأخرى: تبقية ما لم ينسخ منه ورفع ما نسخ. (١)

فكانت تلك العرضة المباركة:

١ - بمثابة وداع للوحي الذي آنس به-صلى الله عليه وسلم- في حياته، وعاش من أجل القيام بحقه فيما بينه وبين ربه سبحانه أولًا، ثم فيما بينه وبين أمته ثانيًا.

٢ - وكانت العرضة الأخيرة بمثابة كمال وتمام أدائه-صلى الله عليه وسلم- لأمانة البلاغ عن ربه-عز وجل-، حيث أمره ربه بذلك في قوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) (المائدة: ٦٧). وذلك بتثبيت القرآن في صدره، ليعييه قلبه، ويحفظه له في صدره تحقيقًا لوعده سبحانه: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ. فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ)

(القيامة: ١٧ - ١٩) وهي المعارضة والْمراجعة والمُدَارَسَة الختامية للوحي المنزل، والتي عُرِضَ فيها القرآنُ الكريم مرتين اثنتين.

٣ - العرضة الأخيرة أُثبِتَتْ فيها جميع أوجه القراءة الثابتة المتواتر التي لم تنسخ، وتُرِكَت كلُ قراءةٍ منسوخة، وهذا لا يعني أنها كانت على أكثر من حرف، بل المعني هو مراجعة كل ما نزل وبقي، ورفع كل ما نسخ مما أراد الله تعالى رفعه ونسخه ..

٤ - كل ما ثبت في العرضة الأخيرة فهو: القرآن الكريم، الذي هو كلام الله تعالى (٢) المُنَزَّل على نبيِّه-محمَّد-صلى الله عليه وسلم-المعجِز بلفظه، المتعبَّد بتلاوته، المُتحدى به، المنقول إلينا


(١) - فتح الباري: (٩/ ٥).
(٢) والقرآن عند أهل السنة هو كلام الله تعالى حقيقة، وأنه سبحانه تكلم به بحرف وصوت، وسمعه جبريل، وقد تكلم السلف في الحرف والصوت وذكروا أدلته، وتكلموا في حكم من أنكره.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ البخاري:
سَمِعْتُ عُبَيْدَ اللهِ بْنَ سَعِيدٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ يَقُولُ: مَا زِلْتُ أَسْمَعُ أَصْحَابُنَا يَقُولُونَ: إِنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: حَرَكَاتُهُمْ وَأَصْوَاتُهُمْ وَاكْتِسَابُهُمْ وَكِتَابَتُهُمْ مَخْلُوقَةٌ، فَأَمَّا الْقُرْآنُ الْمَتْلُوُّ الْمُبَيَّنُ الْمُثَبَّتُ فِي الْمُصْحَفِ الْمَسْطُورُ الْمَكْتُوبُ الْمُوعَى فِي الْقُلُوبِ فَهُوَ كَلَامُ اللهِ لَيْسَ بِخَلْقٍ، قَالَ اللَّهُ تعالى: (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) (العنكبوت من آية: ٤٨).
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: فَأَمَّا الأَوْعِيَةُ فَمَنْ يَشُكُّ فِي خَلْقِهَا؟. "
يُنظر: خلق أفعال العباد: (٢/ ٧٠).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
" إذَا قَرَأْنَا الْقُرْآنَ فَإِنَّمَا نَقْرَؤُهُ بِأَصْوَاتِنَا الْمَخْلُوقَةِ الَّتِي لَا تُمَاثِلُ صَوْتَ الرَّبِّ، فَالْقُرْآنُ الَّذِي نَقْرَؤُهُ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ، مُبَلَّغًا عَنْهُ لَا مَسْمُوعًا مِنْهُ، وَإِنَّمَا نَقْرَؤُهُ بِحَرَكَاتِنَا وَأَصْوَاتِنَا، الْكَلَامُ كَلَامُ الْبَارِي، وَالصَّوْتُ صَوْتُ الْقَارِئِ، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مَعَ الْعَقْلِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) (التوبة: ٦) وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " (زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ). صححه الألباني، سلسلة الأحاديث الصحيحة (٢/ ٢٧٠). ويُنظر تخريجه في البدر المنير (٩/ ٦٣٧).
يُنظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية: (١٢/ ٩٨)، ونفس المصدر: (١٢/ ٥٣).
قال العلامة ابن القيم-رَحِمَهُ اللهُ- في "الكافية الشافية":
"واللهُ رَبِّي لم يَزَلْ مُتَكَلِّمًا … وكَلامُه المسموعُ بالآذانِ
صِدقًا وعَدْلاً أُحْكِمَتْ كَلماتُه … طَلَبًا وإخبارًا بلا نُقصانِ
مِن "الكافية الشافية": (البيتان: ٥٥٦ - ٥٥٧).

<<  <   >  >>