للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

العقبات والأزمات والأحوال والملابسات التي عايشوها وقت الجمع في عهوده الثلاثة، وإن هذا وغيره مما يدلل على دقة وعمق وغزارة علمهم بكتاب ربهم، وإجلالهم لكتابه، وتعظيمهم لشعائره سبحانه، هذا مع ما تحلوا به من أمانة علمية مصحوبة بورع شديد لا مجاملة معه في حق الله تعالى وحق كتابه الكريم، لما لا وهم الذين عاينوا تنزل القرآن غضًّا طريًّا، فعاصروا أحداث وأسباب نزوله، ففهموا مراد الله منه فكانوا بذلك في طليعة خير أمة أخرجت للناس، فهم خير من فقه عن الله، وخير من آمن بالله ورسوله، وخير من فهم مراد الله عن الله تعالى، وخير من بَلَّغ عن الله ما عَلِمه من دينه سبحانه، ولاسيما في تعليم كتاب الله تعالى على الوجه الذي تلقوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قرأه ونطقه وتلفظه به أمامهم جميعًا، وقد كان منهم من يعرف

الكتابة ويحسنها ويتقنها، ومنهم ومن لا يعرفها، وكانوا جميعهم يستمعون لقراءته ويتلقون عنه صلى الله عليه وسلم مشافهة فيعيدون عليه ما تلقونه سماعًا وهو يستمع لقراءتهم فيقرهم على ما أصابوا فيه، ويصوب ويصحح لهم ما يحتاجون لتصويبه وتصحيحه، فجمعوا بذلك تلقي القرآن عن النبي صلى الله عليه وسلم منطوقًا ومسموعًا، كما جمعوه في عهوده الثلاثة كذلك مكتوبًا، فاجتمع لديهم رضي الله عنهم أعلى درجات الضبط والتلقي والإتقان بالنقل الكتابي والنقل الصوتي جميعًا وقد وصل القرآن لكل جيل متواترًا بهذين الأسلوبين حتى وقتنا الحاضر وإلى أن يرفع في آخر الزمان ..

وكما أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا غاية في الحرص على حفظ ما يتنزل من القرآن، مع ما فتح الله عليهم من علومه وأسراره ما لم يفتح بمثله على غيرهم، لسبقهم وفضلهم، ومع ما حباهم الله من زكاة في نفوسهم، وصفاء في قلوبهم، وذكاء في عقولهم، وسيلان في أذهانهم، وقوة في حافظتهم، وهم العرب الخلّص الذين يفهمون بسليقتهم العربية معانيه و ويدركون بها مقاصده ومراميه.

وإنهم - رضي الله- كما كانوا أئمة في التعلم والتلقي، كانوا-كذا- أئمة في تحمل أمانة البلاغ عن الله تعالى، وفي تعليم كتاب الله على النحو الذي تلقوه به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أسلفنا.

وبدراسة الجمع في عهوده الثلاثة دراسة تأصيلية تفصيلية، وبعقد مقارنة بين ما وصل إليه حال المصحف وما انتهى إليه جهد الصحابة وتابعيهم بإحسان حتى جُمع المصحف جمعًا صحيحًا سليمًا من أدنى تحريف، أو زيادة أو نقصان، أو تبديل أو تغير، لا يسع المؤمن إلا أن يحمد الله على هذه النعمة العلية، ثم بمتابعة نَسْخِ المصاحفِ وانتشارها في الأمصار، ثم بالتأمل فيما طرأ على كتابة المصحف الشريف بعد ذلك من تطور وازدهار إثر ظهور آلات الطباعة الحديثة وتطورها وانتشارها في أقطار الدنيا، والعناية الفائقة التى لقاها المصحف الشريف في هذا الجانب حتى وصل إلي تطور في جودة طباعته وسرعة انتشاره في الآفاق بصورة لم تكن لتخطر على قلب

<<  <   >  >>