للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

السورة، فمن ذلك ما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: تعلم عمر - رضي الله عنه - البقرة في اثنتي عشرة سنة، لما ختمها نحر جزورًا. (١)

فهذا الأثر يبين أن طول مكث عمر - رضي الله عنه - في تعلم سورة البقرة ليس من باب العجز أو الكسل أو التراخي-وحاشاه- ومن هو في فضله ومكانته وسبقه في كل خير وبر- وإنما لأن العلم بالقرآن عندهم اقترن بالعمل به.

وها هو ابن مسعود (ت: ٧٣ هـ) - رضي الله عنه- يؤكد نفس المعنى فيقول:

إنا صعب علينا حفظ ألفاظ القرآن، وسهل علينا العمل به، وإن مَنْ بعدنا يسهل عليهم حفظ القرآن ويصعب عليهم العمل به. (٢)

كما كان الأمر كذلك في جيل التابعين، وفي ذلك يقول قال الحسن البصري:

إن هذا القرآن قرأه عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله، ولم يأتوا الأمر من قِبَل أوله. قال الله تعالى-: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ) (ص: ٢٩)، وما تدبُّر آياته إلا اتِّباعُه؛ ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى إن أحدهم ليقول: قد قرأت القرآن كله، فما أسقط منه حرفًا وقد- والله - أسقطه كله؛ ما ترى القرآن له في خلق ولا عمل وحتى عن أحدهم ليقول: إني لأقرأ السورة في نَفَس، والله ما هؤلاء بالقراء ولا العلماء ولا الحكماء ولا الورعة، ومتى كانت القراء تقول مثل هذا؟ لا أكثر الله في الناس مثل هؤلاء. (٣)

وفي هذا يقول ابن القيم (ت: ٧٥١ هـ) فيما يرويه عن بعض السلف:

نزل القرآن ليُعمَل به فاتَخَذوا تلاوته عملاً؛ ولهذا كان أهل القرآن هم العاملون به، والعاملون بما فيه، وإن لم يحفظوه عن ظهر قلب، وأما من حفظه ولم يفهمه ولم يعمل بما فيه، فليس من أهله وإن أقام حروفه إقامة السهم. (٤)

أثر القرآن في الصحابة - رضي الله عنهم--

عن أسماء بنت أبي بكر (ت: ٧٣ هـ) - رضي الله عنهما - قالت:

كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرئ عليهم القرآن كما نعتهم الله: تدمع أعينهم وتُقَشعِرُّ جلودهم. (٥)، وهم كذلك كما وصف الله أولياءه في قوله سبحانه: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ


(١) -أخرجه البيهقي في شعب الإيمان: (٣/ ٣٤٦)، وينظر: تفسير القرطبي: (١/ ٤٠).
(٢) أخلاق أهل القرآن للآجري (ص: ١٠)، ويُنظر: تفسير القرطبي (١/ ٤٠).
(٣) - مختصر قيام الليل، للمروزي، ص (١٧٦)، والزهد لابن المبارك، ص (٢٧٤).
(٤) زاد المعاد، لابن القيم (١/ ٣٢٣).
(٥) -أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره: (١٨٣٨٣)، و يُنظر: تفسير القرطبي: (١٥/ ٢٤٩).

<<  <   >  >>