للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقال الحافظ الذهبي (ت: ٧٤٨ هـ) -رحمه الله-:

فالقرَّاءُ المجوِّدَةُ: فيهم تنطعٌ وتحريرٌ زائدٌ يؤدي إلى أن المجودَ القارئَ يبقى مصروفَ الهمةِ إلى مراعاةِ الحروفِ والتنطع في تجويدِها، بحيثُ يشغلُه ذلك عن تدبرِ معاني كتابِ اللهِ تعالى، ويصرفه عن الخشوعِ في التلاوةِ، ويخلِّيه قوي النفس مزدريًا بحفاظ كتاب الله تعالى، فينظر إليهم بعين المقت، وبأن المسلمين يلحنون، وبأن القرَّاءَ لا يحفظون شواذَّ القراءةِ، فليتَ شِعري أنت ماذا عرفتَ وما عملتَ؟! فأما علمُك فقيرٌ صالحٌ، وأما تلاوتُك فثقيلةٌ عريةٌ من الخشيةِ والحزنِ والخوفِ، فاللهُ تعالى يوفِّقُكَ ويُبَصِّرُكُ رُشْدَكَ، يوقظك من مرقدةِ الجهلِ والرياءِ.

وضدُّهم قراءُ النغمِ والتمطيطِ، وهؤلاء من قرأ منهم بقلبٍ وخوف قد يُنتفع به في الجملة، فقد رأيتُ منهم من يقرأ صحيحًا ويطربُ ويبكي، ورأيتُ منهم من إذا قرأَ قسَّى القلوبَ وأبرمَ النفوسَ وبدل كلام اللهِ، وأسوأُهم حالًا "الجنائزية". (١)

وأما القراءة بالروايات وبالجمع فأبعد شيء عن الخشوع، وأقدم شيءٍ على التلاوة بما يُخرِج عن القصد، وشعارهم في تكثير وجوه حمزة وتغليظ تلك اللامات وترقيق الراءات، اقرأ يا رجل وأعفنا من التغليظ والترقيق، وفرط الإمالة والمدود، ووقوف حمزة، فإلى كم هذا؟!

وآخر منهم: إن حضر في ختم أو تلا في محراب جعل ديدنه إحضار غرائب الوجوه والسكت والتهوع بالتسهيل، وأتى بكل خلاف ونادى على نفسه أنا "أبو … اعرفوني، فإني عارف بالسبع"، إيش نعمل بك؟! لا وصبحك الله بخير، إنك حجر منجنيق ورصاص على الأفئدة. (٢).

وعلى هذا المعنى جاء كلامُ غيرهم من أهل العلم، فهذا الإمام ابن القيم -رحمه الله- يقول وهو يذكر مكائد الشيطان على الإنسان: ومنْ ذلك: الوسوسةُ في مخارج الحروفِ، والتنطع فيها … ومنْ تأملَ هديَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وإقرارَه أهلِ كلِّ لسانٍ على قراءتِهم؛ تبيَّنَ له أن التنطعَ والتشدقَ والسوسةَ في إخراجِ الحروفِ ليس من سنته (٣).


(١) -الجنائزية: نسبة إلى الجنائز، لعله يقصد القراء الذين يقرءون القرآن على الجنائز بالألحان المحرمة على ما سبق بيانه، والله أعلم.
(٢) بيان زغل العلم بالطلب، الذهبي، ص (٤ - ٥)، طبعة المقدسي، ويُنظر: بدع القراء القديمة والمعاصرة، بكر أبو زيد (ص: ٢٤ - ٢٥).
(٣) إغاثة اللهفان، ابن القيم، (١/ ٢٥٢، ٢٥٤)، وانظر: بدع القراء القديمة والمعاصرة، بكر أبو زيد، ص (١٠). للاستزادة يُنظر: بدعة التنطع بالقراءة والوسوسة في مخارج الحروف والبعد عن التدبر والتأمل، محمد بن عبدالله المقدي، مركز إحسان للاستشارات التربوية

<<  <   >  >>