للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقد اصطفى الله قريشًا من جميع العرب فاختار منهم نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم، وبدأ إنزال كتابه الخاتم بلسان وحرف ولغة قريش لأنهم من أفصح العرب لسانًا، وأصفاهم وأسلمهم لغة.

فقد كانت قبائل العرب تحج البيت في الجاهلية قبل الإسلام وتشهد موسم الحج من كل عام؛ وقريش هم سدنة البيت وحماته، تتلقى وفود القبائل فتسمع لغاتهم ولهجاتهم، فما استحسنوه منها واستساغوه استعملوه، وما استهجنوه واستثقلوه دعوه وقلوه وهجروه، فصاروا بذلك من أفصح العرب لسانًا، وأسلمهم لغة، ولذا فقد خلت لغتهم من وحشي الألفاظ ومستهجن الكلام.

قال أبو نصر الفارابي (ت: ٣٣٩ هـ) - رحمه الله - في أول كتابه المسمى بـ"الألفاظ والحروف" (١)

كانت قريش أجود العرب انتقادًا للأفصح من الألفاظ، وأسهلها على اللسان عند النطق بها، وأحسنها مسموعًا، وأبينها إبانةً عمَّا في النفس، والذين عنهم نقلت اللغة العربية، وبهم اقتدي، وعنهم أخذ اللسان العربي من بين قبائل العرب هم: قيس، وتميم، وأسد، فإن هؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه، وعليهم اتكل في الغريب، وفي الإعراب والتصريف، ثم هُذَيْل، وبعض كنانة، وبعض الطائِيِّينَ، ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم.

وقال أحمد بن فارس: (ت: ٣٩٥ هـ) - رحمه الله -:

أجمع علماؤنا بكلام العرب، والرواة لأشعارهم، والعلماء بلغاتهم وأيامهم ومحالِّهم: أن قريشًا أفصح العرب ألسنةً، وأصفاهم لغة، وذلك أن الله - جل ثناؤه - اختارهم من جميع العرب واصطفاهم، واختار منهم نبيَّ الرحمة محمدًا صلى الله عليه وسلم.

فجعل قريشًا قُطَّانَ حرمه، وجيران بيته الحرام، ووُلاتَهُ. فكانت وفود العرب من حُجَّاجها وغيرهم يفِدون إلى مكة للحج، ويتحاكمون إلى قريش في أمورهم. وكانت قريش تعلَّمهم مناسِكَهم، وتحكم بينهم …

وكانت قريش - مع فصاحتها، وحسن لغاتها. ورِقَّةِ ألسنتها - إذا أتتهم الوفود من العرب، تخيَّروا من كلامهم وأشعارهم احسنَ لغاتهم، وأصفى كلامهم، فاجتمع ما تخيروا من تلك اللغات إلى نحائِزِهِمْ وسَلَائِقِهِمْ التي طبعوا عليها، فصاروا بذلك أفصح العرب.

ألا ترى أنك لا تجد في كلامهم عَنْعَنَةَ تميم، ولا عَجْرَفِيَّةَ قيس، ولا كَشْكَشَة أسد، ولا كَسْكَسَةَ ربيعة، ولا الكَسْرَ الذي تسمعه من أسد، وقيس مثل: يِعْلَمُون ونِعْلَم، ومثل: شِعير وبِعير؟). (٢)


(١) -هكذا يسميه "السيوطي"، وأما النسخة الخطية فتسميه "رسالة الحروف".
يُنظر" المقدمة لرسالة "الحروف" (ص: ٣٤) بتحقيق د. مهدي محسن.
(٢) -الصاحبي، أحمد بن فارس (ص: ٣٣ - ٣٤)

<<  <   >  >>