للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وكذلك أقرَّ عُتبة بن ربيعة أنه ليس بسِحر ولا بشِعر، لما قرأ عليه رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: "حم" فُصلت، (١)، فإذا اعترف عُتبة - على موضعه من اللسان وموضعه من الفصاحة والبلاغة - بأنه ما سَمِعَ مثل القرآن قَطُّ، كان في هذا القول مُقِرًّا بإعجاز القرآن له، ولضربائه من المتحقِّقين بالفصاحة، والقدرة على التكلم بجميع أجناس القول وأنواعه.

ولاشك في أن الله تحداهم بالقرآن بأبلغ عبارة وأشد أسلوب في التحدي ليحفز هِممهم ويوخز ضمائر نفوسهم ليأخذوا أُهبتهم واستعدادهم ويجلبوا على ذلك بخيلهم ورجلهم، ولاشك في توافر دواعي أدوات وأسلحة التحدي لديهم بكل ما يقتضيهم أن ينازلوا به، من فصاحة لغة، وقوة وروعة بيان، مع طلاقة لسان، فعجزوا في أن يأتوا بمثله، أو بعشر سورة من مثله، أو بسورة من مثله، ولا ريب في أنهم انتفى عنهم كل ما يَمنعهم من هذا التحدي او معارضته من كل جهة، لفظية كانت أو معنوية أو حتى زمنية؛ هذا كله مع أن القرآن نزل بلغتهم وفيهم علماء من أهل الكتاب، وقد أنزله الله مُفرَّقًا ومنجمًا في ثلاث وعشرين سنة، وقد أمهلهم الله بذلك ليمكنهم من تحديه، ولكنهم عجزوا، ومع هذا كله لم يحاولوا، ولم يمكنهم أن يأتوا بمثله، بل لم يستطيعوا معارضته،

ولو أمكنهم المجيء بمثله، لنصروا آلهتهم، وأبطلوا حُجة من جاء بالقرآن، ففرق جمعهم، وخالف بين كلمتهم، وعاب آلهتهم وسفَّه أحلامهم، ولكَفَوا أنفسهم وعشيرتهم وأهليهم ويلات حربه وقتاله ونزاله طيلة بقائه ومكثه فيهم.

ولكنهم بدلوا المعارضة والتحدي بالتكذيب والعداوة والحقد بل وبالمحاربة والمقاتلة، وهذا كله استسلام منهم واعترافٌ بعجزهم عن محاجته معارضته، وتسليم منهم بأن هذا فوق قدرة البشر، وبرهان على أنه من عند الله، شاءوا ذلك أم أبوا، ولو تغايرت أساليب ومفاهيم العجز والاعتراف بأن القرآن كلام الله لا كلام البشر ..

الوجه الثاني: الأسلوب المخالف لجميع أساليب العرب. والتي منها الشعر والنثر والسجع، وما ورد فيها من أساليب، هذا مع ما أُتوا من فصاحة وبلاغة، وقوة تعبير، وسحر بيان، ولقد كانت أسواقهم ونواديهم ومجالسهم ميادينَ للتنافس بين فصحائهم وبلغائهم في الخطابة والحماسة والشعر وضرْب الأمثال. والقرآن ليس كذلك أبدًا.

وبهذا الأسلوب المغاير لأساليبهم وأفانينهم وقوتهم في البلاغة والفصاحة أعجزهم الله في أبين مظاهر قوَّتهم، فأقحمهم وهزمهم في أعز وأقوى ميادينهم التي صالوا وجالوا فيها فصاحة وبلاغة،


(١) - أخرج قصة عتبة بن ربيعة ابن إسحاق فيما ذكر ابن هشام (١/ ٢٩٣ - ٢٩٤) ومن طريقه البيهقي في دلائل النبوة (٢/ ٢٠٤ - ٢٠٥). حديث رقم: (٥٣٦)، الاعتقاد إلى سبيل الرشاد للبيهقي: حديث رقم: (٢٦٢). والأثر: إسناده ضعيف لأن به موضع إرسال، وفيه أحمد بن عبد الجبار العطاردي وهو ضعيف الحديث.

<<  <   >  >>