فأما القسم الأول الذي ورد النص بإباحته، فهو الاستصباح به، فكذلك ما في معناه من إسجار التنانير بالبعر والسرجين وجميع الأنجاس، وإبقاءه تحت القدور، ومن الاصطلاء بناره، واختلف أصحابنا في نجاسة دخانه على وجهين:
أحدهما: أنه نجس؛ لأنه تولد عن نجاسة والأعيان النجسة لا تطهر بالاستحالة كالرماد.
والثاني: أنه طاهر، لأنه تولد من التقاء جسمين، فلم ينجس بنجاسة أحد الجسمين، كالريح الخارجة من الجوف.
فإن قيل: بطهارته لم يلزم الاحتراز منه إلا تنزهاً.
وإن قيل: بنجاسته، ففي العفو عنه وجهان:
أحدهما: يعفى عنه؛ للحوق المشقة في التحرز منه، كدم البراغيث، فعلى هذا إن سجر به تنواً لم يلزمه مسحه منه، وجاز الخبر فيه.
والثاني: أنه لا يعفى عنه، لأن البعد منه عند استعماله له ممكن، فأمكن التحرز منه، ولا يمكن التحرز من دم البراغيث.
فعلى هذا إن تدخن به ثوب وجب غسله، ولذا سجر به تنور، وجب مسحه منه قبل الخبز فيه، فإن خبز فيه قبل مسحه نجس ظهر الرغيف، وكان وجهه طاهراً، ولم يجز أن يأكل الرغيف إلا بعد أن يغسل ظاهره.
وأما القسم الثاني: الذي ورد النص بالنهي عنه، وهو أن تطلى به السفن والمراكب.
روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى أن تطلى الفن بشحوم الميتة وحكم شحوم الميتة والزيت النجس سواء في جواز الاستصباح بهما، فكان سواء في المنع من إطلاء السفن بهما.
واختلف في معنى النهي عن طلاء السفن وجواز الاستصباح على وجهين:
أحدهما: أن في الاستصباح بدا استهلاكاً له فجاز وفي طلاء السفن به استبقاء له، فلم يجز.
والثاني: أن المصباح لا يمسه في الغالب إلا من يعلم بالنجاسة فيتوقاها، والسفينة يمسها في الغالب من لا يعلم بالنجاسة، فلا يتوقاها.
فعلى هذا إن جعل طلاء للبهائم، فإن كانت مستعملة لم يجز كالسفينة لوجود العلتين من بقاء العين ومسيس حق لا يعلم. وان كانت سائمة غير مستعملة فعلى وجهين:
أحدهما: يجوز تعليلاً بأنه لا يكاد يمسها من لا يعلم بها.
والثاني: لا يجوز تعليلاً ببقاء عينها.