للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقالت طائفة أخرى بجواز ذلك لأن العلة التي ثبت بها الحكم في الأصل هي كالنص في أنها طريق الحكم وليس يمتنع أن يعلم بالدليل أن لعلة أخرى تأثيراً في ذلك الحكم فيرد بها بعض الفروع إليه، وهذا مذهب من أجاز القول بالعلتين.

فصل

فإذا ثبت حكم الأصل من أحد هه الوجوه الثلاثة وجب على القياس اعتبار علة الحكم في الأصل لتحريها في الفرع. وقد يعلم علة الأصل من أحد ثلاثة أوجه أيضاً.

أحدها: النص الصريح. والثاني: التنبيه. والثالث: الاستنباط.

وأما النص الصريح فنحو قوله تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:٣١]. ونحو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما نهيتكم لأجل الدافة". فنص على العلة كما نص على الحكم. وأما التنبيه. فمثل ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه امتنع من الدخول على قوم عندهم كلب ودخل على آخرين وعندهم هرة، وقال: إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات.

فنبه بذلك على نجاسة الكلب لأنه ليس من الطوافين والطوافات. وفي معنى التنبيه الجواب بالفاء نحو قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً} [المائدة:٣٨]. فنبه بذلك على أن علة القطع السرقة.

وأما الاستنباط فهو ما ورد النص بإطلاق حكمه من غير إشارة إلى علته ووكل العلماء إلى اجتهادهم في استنباط علته كالستة الأشياء التي نص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ثبوت الربا فيها. فاجتهد الفقهاء في استنباط معناها. وهذا النوع إنما يمكن استنباط علته بعد العلم بالدليل على صحة العلة ليعلم به العلة الصحيحة التي يجوز تعليق الحكم بها من العلة الفاسدة التي لا يجوز تعليق الحكم فيها.

وقد اختلف أصحابنا في الشروط الدالة على صحة العلة. فقال بعضهم هي أربع: وجود الحكم بوجودها، وارتفاعه بارتفاعها، وسلامتها على الأصول، وعدم ما يعارضها مما هو أولى منها فجعل الطرد والعكس شرطين من شروط صحتها. وقال آخرون هي ثلاثة شروط: وجود الحكم بوجودها، وسلامتها على الأصول وعدم ما يعارضها مما هو أولى منها. فجعل هذا القائل الطرد شرطاً ولم يجعل العكس شرطاً. وقد اختار هذا القول ابن أبي هريرة وزعم أن العلل الشرعية لا يستمر في جميعها الطرد والعكس، وإنما يستمر في العلل العقليات.

وقال الأولون: بل هذا الشرط مستمر في الشرعيات أيضاً ما لم يخلف تلك العلة علة أخرى توجب مثل حكمها، وهذا أصح المذهبين عندي لأن العلة إذا كانت موجبة بحكم واقتضت أن يكون الحكم بوجودها موجوداً لزم أن يكون الحكم بعدمها وما ليقع الفرق بين وجودها وعدمها. والله أعلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>