للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تبيعوا البر بالبر إلا كيلاً بكيل يداً بيد". فنص على التساوي بالكيل فاقتضى ألا يعتبر فيه التساوي بالوزن لأنه قد يخالف ما أمر به من الكيل.

ولأنه قد يتساوى البر بالبر كيلاً ويتفاضلان وزناً، كما أنهما قد يتساويان وزناً ويتفاضلان كيلاً، والتفاضل فيه محرم، فلو اعتبر التساوي بالوزن لأن أخص لاقتضى ألا يعتبر التساوي بالكيل لأنه ليس أخص.

ولأنه ربما أدى إلى التفاضل في الوزن الذي هو أخص فلما جاز اعتبار التساوي فيه بالكيل وإن جاز التفاضل في الوزن، وجب ألا يجوز اعتبار التساوي بالوزن لجواز التفاضل في الكيل، ولو كان مخيراً في اعتبار التساوي فيه بالكيل والوزن لكان مخيراً بين أن يجري عليه حكم التماثل فيحل أو يجري عليه حكم التفاضل فيحرم. وهذا متناقض. وأما أبو حنيفة فالدلالة عليه ما روى طاوس عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "المكيال مكيال أهل المدينة، والوزن وزن أهل مكة" وليس هذا القول إخباراً منه بانفراد المدينة بالمكيال ومكة بالميزان. لأن مكيال غير المدينة وميزان غير مكة يجوز التبايع به واعتبار التماثل فيه، فعلم أن مراده عادة أهل المدينة فيما يكيلونه وعادة أهل مكة فيما يزنونه.

ولأنه لو أحدث الناس عادة في الدراهم والدنانير أن يتبايعوها عدداً لم يجز أن يكون العدد معتبراً في بعضها ببعض اعتباراً بما كانت عليه في الحجاز من قبل. وكذا الأربعة التي قد ورد فيها النص، لو خالف الناس فيها العادة لم يجز أن يكون الحادث رافعاً لسالف العادة فوجب أن يكون ما سوى ذلك معتبراً في تماثله بسالف العادة. وتحرير ذلك علة أنه جنس يحرم فيه التفاضل فوجب أن يكون اعتبار التماثل فيه بالمقدار المعهود على زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كالذهب والفضة والأشياء الأربعة. وهذه علة تعم مالكاً وأبا حنيفة وفيها انفصال عما استدلا به.

فصل

فإذا ثبت أن اعتبار المكيل والموزون بما كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكيلاً أو موزوناً لم يخل حال الجنس الذي فيه الربا من أحد أمرين:

إما أن يكون معروف الحال على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو مجهول الحال. فإن كان معروف الحال راعيت فيه ما عرف من حاله. فإن كان مكيلاً جعلت الكيل فيه أصلاً ومنعت من بيعه وزناً. وإن كان موزوناً جعلت الوزن فيه أصلاً ومنعت من بيعه كيلاً. فعلى هذا قد كانت الحبوب على عهده مكيلة، والأدهان مكيلة، والألبان مكيلة، وكذلك التمر والزبيب وإن كان مجهول الحال أو كان من مأكل غير الحجاز راعيت فيه عرف أهل الوقت في أغلب البلاد فجعلته أصلاً. فإن كان العرف وزناً جعلت أصله الوزن، وإن كان العرف كيلاً جعلت أصله كيلاً.

<<  <  ج: ص:  >  >>