وأما الثاني: وهو إذا حفر بئرًا في الموات ليتملكها فإنه يملكها بالإحياء، والإحياء أن يبلغ إلى مائها، لأن ذلك نيلها، وإذا بلغ نيل ما يحييه ملكه، وقيل: إن يبلغ الماء يكون ذلك تحجرًا وهذا كما قلنا في المعدن الباطن أن تحجيره ما لم يبلغ النيل، وإذا بلغ النيل كان ذلك إحياء ويملكه، ويفارق المعدن على أحد القولين، لأن المعدن لا ينتهي عمارته والبئر تنتهي عمارتها فإذا بلغ الماء تكررت منفعتها على صنفيها إذا ثبت هذا فهل يملك الماء الذي يحصل في هذين الضربين أم لا؟ نص الشافعي على أنه يملك، ومن أصحابنا من قال: لا يملك، لأن الماء في البئر لو كان مملوكًا يستبح بالإجارة، لأن الأعيان لا تستباح بالإجارة، ولأنه لو كان مملوكًا لما جاز بيع دار في بئرها ماء، لأن الربا يجري في الماء لكونه مطعومًا، ولما جاز ذلك دل على أنه ليس بمملوك، والدليل على أنه مملوك أنه نماء ملكه فهو كثمرة الشجرة، ولأن هذا الماء معدن ظهر في أرضه فهو كمعادن الذهب والفضة وغيرها إذا ظهرت في أرضه.
فأما الجواب عن قولهم لو كان مملوكًا لم يستبح بالإجارة فهو أن العين قد تستباح بالإجارة إذا دعت الحاجة إليه، ألا ترى أنه يجوز أن تملك بعقد الإجارة على الإرضاع عين اللبن، لأن الحاجة تدعو إلى ذلك وجواب آخر وهو أنه إنما جاز أن يستبيحه المستأجر لأنه لا ضرر على المكري في ذلك، لأنه يستخلف في الحال، وما لا ضرر عليه فيه فليس له منع الغير منه، ألا ترى أنه ليس له أن يمنع أن يستظل بحائطه فكذلك هاهنا.
وأما الجواب عن دليلهم فهو أن الماء يجري فيه الربا على أحد الوجهين فهو مملوك، ولا يجري فيه الربا على هذا الوجه، فكذلك صح البيع، إذا تقرر هذان الوجهان فإن قلنا: إنه مملوك فليس لغيره أن يأخذ منه شيئًا لأنه يحتاج إلى أن يتخطى في ملك غيره بغير إذنه فإن تخطى بغير إذنه واستقى من ذلك الماء ملكه، وليس عليه رده كما إذا توغل في أرضه صيد فليس لغيره أن يأخذه، لأنه يحتاج أن يتخطى ملك غيره بغير إذنه، وذلك لا يجوز، فإن خالف وتخطى فأخذ ملكه، وأما إذا أراد أن يبيع منه شيئًا فإن خالف قلنا إنه غير مملوك لم يجز بيع شيء منه حتى يستقيه ويجوز فيملكه بالحيازة، وإن قلنا: إنه مملوك جاز أن يبيع منه وهو في البئر إذا شاهد المشتري كيلًا أو وزنًا، ولا يجوز أن يبيع جميع ما في البئر، لأنه لا يمكن تسليمه إذا كان يبيع ويريد كلما استقى منه شيء فلا يمكن تميز المبيع من غيره.
وأما الثالث: من الآبار وهو إذا نزل قوم موضعًا من الموات فحفروا فيه بئرًا ليشربوا من مائها ويسقوا منه مواشيهم مدة مقامهم ولم يقصدوا التملك بالإحياء، فإنهم لا يملكونها، لأن المحيي إنما يملك بالإحياء مدة ما قصد به بملكه فإنه يكون أحق به مدة مقامه فإذا رحل فكل من يسبق إليه كان أحق به وكل موضع قلنا إنه يملك البئر فإنه أحق بمائها بقدر حاجته لشربه وشرب ماشيته وسقي زرعه فإذا فضل بعد ذلك شيء وجب عليه