فإذا تقرر هذا فالقضاء مأخوذ من إحكام الشيء والفراغ منه؛ قال الشاعر يرثى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه-:
قَضَيتَ أُموراً ثم غادَرْت بعدَها بوائِجَ مِن أكمَامِها لم تُفَتَّقِ
أي أحكمت أموراً وأمضيتها؛ وخلقت بعدك دواهي خافية كامنة.
وقد يراد بالقضاء إمضاء الحكم؛ ومنه قول الله سبحانه وتعالى: {وقَضَيْنَا إلَى بَنِي إسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ} [الإسراء:٤]؛ أي أمضينا وأنهينا.
وقيل للحاكم قاض لأنه يمضى الأحكام ويحكمها؛ وسمى حاكماً لمنعه الظالم من الظلم؛ ومن ذلك سميت حكمة اللجام؛ لأنها تمنع الدابة عن ركوبها رأسها؛ وسميت الحكمة حكمة لمنعها الناس من هواهم.
فإذا تقرر هذا فاعلم أن القضاء من فرائض الكفايات؛ فإذا قام به من يصح قضاؤه سقط فرضه عن الباقين؛ وإذا تركه الجميع ولم يقم به أحدٌ أثموا بتركه وكانوا تاركين للفرض لقوله صلى الله عليه وسلم:" إن الله لا يقدس امة ليس فيهم من يأخذ للضعيف حقه ". وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لتأمرنَّ بالمعروف أو ليسلطن الله عليكم شراركم".
وأيضاً فإن نصب الإمام إذا كان واجباً كان نصب القاضي واجباً ولا فرق بينهما؛ لأنه من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر؛ ذلك فرض على الكفاية بالإجماع فكذلك [٦١/ أ] القضاء.
فإن قيل: هذا الذي قلتموه مخالف للسنة؛ لأن أبا هريرة - رضي الله عنه - روى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ولى القضاء فقد ذبح بغير سكين " وهذا يحتمل معنيين.
أحدهما: أن الذبح في العادة بالسكين فعدل به عن سنن العادة ليعلم أنه كان منه هلاك دينه دون هلاك بدنه.
والثاني: أن الذبح الموحى الذي فيه إراحة لذبيحة وخلاصها من طول الألم إنما يكون بالسكين؛ لأنه يمور في حلق المذبوح فيجهز عليه؛ وإذا ذبح بغير السكين كان ذبحه خنقاً وتعذيباً؛ فضرب به المثل ليكون أبلغ في الحذر من الوقوع فيه.
وروى عن على -رضي الله عنه - أنه خطب بذي قارٍ وعليه عمامة سوداء؛ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما من قاضٍ ولا والٍ إلا يؤتى به يوم القيامة فيوقف على الصراط فينشر له شبرة؛ فإن كان عادلاً نجاه الله بعدله؛ وإن كان غير ذلك انتفض الصراط به انتفاضه فصار ما بين كل عضو من أعضائه مسيرة مائة عام؛ فلا يلقى جهنم.