للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يجوز الحكم أولى، وهذا لأن الحرية شرط في القضاء وإن لم تكن شرطاً في الفتيا.

فإن قيل: أليس يجوز أن يخبر بكل ما سمع؟ قيل: هذا خطأ، لأنه لا يجوز أن يكون مفتياً بكل ما سمعه، وإنما يجوز أن يخبر عن رجل بعينه من أهل الاجتهاد، فيكون مقولاً بخبره لا بفتواه، ويخاف قول المقوم لأن ذلك لا يمكن الحاكم أن يعرف القيمة بنفسه بخلاف الحكم.

فإن قيل: هذا الذي ذكرتم من الشرائط يمنع القضاء والاستشارة، لأنه لا تكاد توجد [١٤٦/ أ] هذه الأوصاف. قيل: قيد بينا أنه يعتبر معرفة حمل هذه العلوم دون التبحر في كلها، ويعرف من لسان العرب ما يفهم به عن الله تعالى، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، ويعرف في القياس ما يميز به بين القياس الصحيح وبين الفاسد، وبين الجلي والخفي، وقياس العلة وقياس الشبه، وهذا كله يجمعه فقهاءنا في هذا الزمان، وفيما قبله ولله الحمد.

ولهذا قال الشافعي رضي الله عنه: "وعمل الناس بخلافه فإنهم لا يولون إلا فقيهاً في الجملة"، إلا أن الناس اليوم تسمحوا بالعلم بالقضاء وجعلوه في العامة الذين لا يعرفون من ذلك شيئاً، وإنما أحسن أحوالهم أن يقلدوا من يعتقد مذهب السلف الذين ينتمون إليه ويعتقدون مذهبه، وإذا اختلف الفتاوى عليهم لم يقدروا على التمييز عنها، فدافعوا بالخصوم حتى يصطلحوا أو يقضوا بينهم بما وافق. هداهم الله عز وجل وهو المستعان، ومن كان هكذا فهو القاضي الذي توعده رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنار، فقال في الحديث الصحيح: "القضاة ثلاثة ... " الخبر، فجعل الجاهل بمنزلة العالم إذا جار وجعلهما جميعاً من أهل النار، فمن عرف هذا الحديث ثم ولى القضاء مع الجهل فما له حظ في الدين.

وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا حكم الحاكم فاجتهد فأخطأ فله أجر واحد" فدل على أن طريق الحكم هو الاجتهاد دون التقليد.

وأما العدالة: فما يعتبر في الشاهد يعتبر فيه. وقال الأصم: يجوز أن يكون الفاسق أميراً، لقوله صلى الله عليه وسلم: "سيكون بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن أوقاتها، فصلوها لوقتها، ثم صلوا معهم واجعلوا صلاتكم معهم سبحة".

ودليلنا قول الله تعالى: {إن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:٦]، ولأنه شرط في الشهادة [١٤٦/ ب] ففي القضاء أولى، لأنه أقوى منها.

وأما الخبر الذي ذكرنا قلنا: أراد يؤخرون الصلاة عن أول أوقاتها، أو نقول: سماهم أمراء على طريق المجاز.

وأما الكمال: فيحتاج أن يكون كاملاً في الخلق، فأن لا يكون أعمى ولا أخرس ولا أصم، لأن فقد هذه الحواس يمنع الحكم بين الخصوم بنفسه ولا يفرق الأعمى بين الطالب والمطلوب. وقال مالك: يجوز قضاء الأعمى كما تجوز شهادته. وقيل: فيه وجه آخر يجوز كما جاز أن يكون نبياً وهو شعيب ويعقوب صلى الله عليهما. وقال ابن سريج: يجوز قضاء الأخرس كما تجوز شهادته إذا كان مفهوم الإشارة.

<<  <  ج: ص:  >  >>